رسالة من روسيا – فهمي هويدي

news-mYm40M5LfQ

news-mYm40M5LfQ

العلامات:

0
05-11-2013
من مفارقات الأقدار وسخرياتها أنه في حين كانت الصحف المصرية تنشر مقالات الهجوم على حضور الدين في مناهج التعليم، فإن روسيا قررت إدخال دروس الثقافة الدينية إلى المدارس المتوسطة، وكذلك السماح لرجال الدين بالعمل بين أفراد القوات المسلحة الروسية.

ليست بعيدة عن الأذهان تلك الحملة الشرسة التي نددت في مصر بما سموه «تديين التعليم». وتواصلت حلقاتها في مقالات عدة استهدفت شيئا واحدا هو إقصاء الدين عن مناهج الدراسة، و«تطهير» الكتب المدرسية من الإشارة إلى مرجعية أو حتى مصطلح له علاقة بالدين.

حتى عبارة «السلام عليكم» استنكرها أحدهم في كتب المطالعة، وطلب حذفها بدعوى إنهاء محملة بإيحاءات موصولة بالانتماء الديني.

وبدا أن ثمة رسالة خبيثة مطلوب تعميمها تقول إن الأقباط في مصر لن يهدأ لهم بال طالما بقي للدين الإسلامي أثر في المجال العام بالبلد.
وهي رسالة بالغة الخطورة، ليس فقط لاستحالتها من الناحية العملية ولإضرارها الجسيم بوضع الأقلية، ولكن أيضا لأنها تضرب أساس التعايش وتحول الحساسيات العارضة إلى عاهات دائمة، الأمر الذي يهدد الاستقرار في البلد ويخل بأمنه القومي.
الخبر الروسي ليس جديدا تماما، لأن قرار الرئيس ميدفيديف الخاص بإدخال دروس الثقافة الدينية إلى المدارس صدر في 12 يوليو من العام الماضي، لكن أحدا لم يسمع به آنذاك.
وقد وقعت عليه في عدد أخير تلقيته من صحيفة «الإسلام في روسيا»، حيث تصدر الخبر الصفحة الأولى مع بعض التعليقات والإيضاحات، التي وصفت القرار بأنه «خطوة ثورية»، هي الأولى من نوعها في التاريخ الروسي، سواء في عهد روسيا القيصرية أو المرحلة السوفييتية.

وكما هو معلوم فإن تلك المرحلة الأخيرة أعلنت الحرب على الأديان جميعها، وقررت «الإلحاد» مادة تدرس في جميع مراحل التعليم، الأمر الذي أحدث فراغا روحيا هائلا في روسيا الاتحادية كانت له سلبياته العديدة التي ظهرت جلية خلال العقدين الأخيرين.
ذكرت الصحيفة التي يصدرها المجلس الإسلامي الروسي أنه حين غاب الدين تعرض المجتمع الروسي لأعراض التفكك والانحراف إضافة إلى الخلل الذي أصاب منظومة القيم السائدة فيه. فشاع التحلل الاجتماعي
وانتشر بشكل مخيف الإدمان على الخمور والمشروبات الكحولية،
وتراجع النمو السكاني على نحو مؤرق.

وشاعت الأنانية التي اقتربت بالسلوك الاستهلاكي المنفلت والجشع،
كما برزت مظاهر التطرف القومي، التي هددت فكرة التعايش المشترك بين بلد اتسم بتعدد أقوامه.
(في روسيا الاتحادية 182 عرقا، منهم 57 عرقا مسلما).

وهي الملابسات التي استدعت اتخاذ مجموعة من الإجراءات من جانب السلطة، كان من بينها تشجيع الانبعاث الديني. في هذا الصدد استشهدت الصحيفة بقول أحد أبطال رواية ديستوفيسكى، أديب روسيا الشهير، إنه إن لم يكن هناك إله، فكل شيء يصبح جائزا.
قرار الرئيس الروسي لم يكن منفصلا عن أجواء التهدئة والتفاهم التي سادت العلاقات بين الحكومة ومسلمي الاتحاد الروسي (نحو 40 مليونا).

وهي الأجواء التي فتحت الأبواب لترميم المساجد والتوسع في إنشائها. إضافة إلى السماح بفتح المدارس والجامعات (96 مؤسسة تعليمية دينية و7 جامعات إسلامية).

والاتجاه إلى إنشاء قناة تلفزيونية إسلامية، وقبول روسيا كعضو مراقب في منظمة المؤتمر الإسلامي. وفي سياق هذه العلاقة الإيجابية قام الرئيس ميدفيديف بزيارة جامع موسكو الشهير، لأول مرة في تاريخ مسلمي روسيا.
لقد انتقلت روسيا خلال ربع القرن الأخير مرحلة العداء للدين تحت الحكم الشيوعي إلى طور فصل الدين عن الدولة في ظل «البريسترويكا»، ثم تقدمت خطوة إلى الأمام بحيث أصبحت الصيغة الراهنة كالتالي:
الدين منفصل عن الدولة وليس عن المجتمع.

إن الفرق بين دعاة مناهضة التدين في بلادنا وبين أولئك الذين يستدعونه في روسيا، هو ذاته الفرق بين أناس تحركهم مراراتهم وحساباتهم الخاصة، وآخرين يحركهم الصالح العام،
أو قل إنه بين أناس يدافعون عن عقدهم وأهوائهم وآخرين يدافعون عن أوطانهم.