البرغماتية والواقعية في السياسة الروسية المعاصرة

العلامات:

0
04-09-2018
ـ د. ماجد بن عبدالعزيز التركي : ( رئيس مركز الإعلام والدراسات العربية ـ الروسية) 1 سبتمبر 2018م

     تجاوزت روسيا الاتحادية مرحلة مهمة في بناء الدولة المعاصرة، بعد تخطي عثرات المرحلة التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي (1991 ـ 1998)، ثمان سنوات عجاف اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، عاشتها روسيا الاتحادية، خلال مرحلة رئاسة الرئيس السابق/ بوريس يلتسين، عانى خلالها الشعب الروسي كثيراً "بمختلف أطيافه" وانعكست سلباً على صورة روسيا في العالم الخارجي، وكانت مرحلة تشكلت فيها الصور الذهنية المتعمقة لدى العالم الخارجي عن روسيا، والتي لم تتجاوز حدود: (العصابات/ المافيا التي تُدير الشأن الداخلي الروسي، وانتشار البغاء، والتبعية للغرب، وفراغ روسيا من مقدراتها وضعف إمكانات الدولة وغياب التشريعات)،  وانعكس من جانب آخر بشكل سلبي على العمق الروسي الاستراتيجي، (خاصة في آسيا الوسطى، والقوقاز الكبير، وأطراف من أوربا الشرقية، حيث تهافتت تلك الدول على علاقات بديلة مع قوى غربية)، بدأت مع تلك القوى في علاقاتها من الصفر، وتجاهلت عمقاً حضارياً ومعرفياً تم بناؤه في إطار غلاف لغوي روسي، وساعد في نمو هذه الاتجاهات الانشغال الروسي في اتجاهين:

  • الأول: النزاعات الداخلية ذات الطابع العسكري خاصة في الشيشان حتى العام 1998م، والمناوشات الأمين في داغستان.

  • الثاني: النزاعات السياسية بين القوى الحزبية الروسية الداخلية .


 حتى تم حسم هذين الملفين في مرحلة الرئيس الحالي/ فلاديمير بوتين، وقوة الحزب الحاكم في إدارة الشأن الداخلي، وإن ترتب عليه تجاوز الاعتبارات الديموقراطية التي ينادي بها الليبراليون الروس أو امتدادهم الغربي.

     انصرفت لروسيا للبناء الداخلي: ( التشريعات، إعادة هيبة الدولة داخلياً، تنفيذ خطط اقتصادية طموحة ساهمت في خفض معدلات البطالة ومستوى الفقر، وإعادة تأهيل القطاعات العسكرية خاصة الاستراتيجية، مستفيدة من الانسحاب الأمريكي من معاهدة خفض التسلح) وكأن روسيا تمهد لمرحلة جديدة من الحرب الباردة ، ولكن وفق معطياتها التي تعتزم فرضها على المشهد الدولي.

     خلاصة الشأن الداخلي الروسي/ مرحلة الرئيس بوتين، التعامل بواقعية وطنية بعيداً عن أي اعتبارات " وكأن روسيا تقول/ نحن روسيا: التاريخ والواقع" واعتمد الكرملين في تنفيذ برامجه الداخلية على تنامي الشعور الشعبي المليء بالاعتزاز الوطني " أن يرى دولته تعود بقوة لبناء الداخل الروسي، وإن كان المشوار طويلاً جداً، ولاسيما أن العبث بالبُعد الاجتماعي الروسي كان عميقاً ومؤثراً إلى أبعد حد في عمقه الثقافي الروسي، وتجاوزُ سلبياته قد يكون متعذراً على المدى القريب والبعيد، ولاسيما في فضاء مفتوح ثقافياً ومعرفياً. ولا يعني هذا أن روسيا تعيش توافقية مجتمعية كاملة، إطلاقاً ولا يمكن تصور ذلك في أي مجتمع يُراعي التنوع الاثني والديني واللغوي.

   ـ خارجياً : حتى العام/ 2000م، لم يكن لروسيا حضورها المؤثر في الساحة الدولية، خاصة في العالم العربي، بل خلال هذه المدة الزمنية فقدت روسيا العديد من مناطق العمق الاستراتيجي الروسي " القريب مثل جورجيا وأكرانيا، أو البعيد مثل العراق واليمن ولاحقاً ليبيا" ويغفل كثير من المحللين عن أهمية فقدان الشعور الاستراتيجي تجاه روسيا، كما حصل في كثير من دول آسيا الوسطى.

ليس فقط أنه لم يكن لروسيا حضور دولي فاعل، بل تجاوز الأمر إلى تجاهل القوى الدولية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا للدور الروسي، أو ردة الفعل الروسية "كما حصل في العراق وجورجيا، ثم ليبيا بعد ذلك".

ـ لكن روسيا في نهاية الأمر عادت للمشهد الدولي، "بعد ترميم عميق للشأن الداخلي " تمثل في فرض الإرادة وإن بالقوة العسكرية، كما حدث في جورجيا (فترة حكم مدفيدف وبوش الأبن)، ثم أوكرانيا (في الفترة الرئاسية المتجددة لبوتين، ويقابله الرئيس أوباما)، وتزامن مع هذا الوضع، التدخل الروسي المباشر في سوريا، وإدارة الملف السوري بالاعتماد على الحضور الإيراني على الأرض، حيث كسرت فيه روسيا كل قواعد اللعبة الدولية، وقراءات المحليين السياسيين، فوضعت مع حلفائها المسارات التي تقود المشهد السوري، وأصبح الحضور الأمريكي في سوريا إما تابعاً، أو مناكفاً للروس، وهنا غلبت البرغماتية الروسية على الواقعية التي مارستها روسيا في الملف اليمني، حيث تعاطت مع الشأن اليمني بحيادية تميل إلى الإيجابية في صف الشرعية والتحالف العربي لإعادة الشرعية " تفهماً للخطر الذي يمثله الحوثي "الوكيل الإيراني" على أمن المملكة وحدودها الجنوبية، وهنا تتجلى أعمق صور الواقعية السياسية الروسية، حيث تجاهلت روسيا المصلحة الإيرانية في اليمن " وإيران الشريك الاستراتيجي لروسيا في سوريا؟؟!! وهذه معادلة سياسية يصعب تفكيكها حتى في المختبرات المغلقة، ولكنها تجلت بوضوح في التعامل الروسي مع الملفين السوري واليمني.

   ـ ويبقى الملف الليبي كمؤشر للتجاذبات الدولية بين القوى الدولية الأربع ( أمريكا ـ بريطانيا ـ فرنسا ـ روسيا)، إلى جانب بعض الحراك الإقليمي "خاصة المصري" والذي لا يتجاوز حدود العمل بالوكالة، ويجتمع في هذا الملف "البرغماتية والواقعية الروسية" فالواقعية من خلال تعاملها المزدوج مع الاتجاهين المتجاذبين في الساحة الليبية: (العسكري/ يقودها اللواء خليفة حفتر، وتم ظهورها بعدما أطلقت عملية "الكرامة" في مايو 2014م، والمدني/الذي يمثل الاتفاق الذي تم توقيعه في مدينة الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر 2015م، ثم جولات الحوار الليبي، حتى إعلان التشكيل المقترح للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني بقيادة عضو مجلس النواب عن طرابلس، فائز السراج، التي أعلنها المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا ، برناردينو ليون ، في 8 / أكتوبر 2015م)، بمعنى أن روسيا تعمل من خلال الداخل الليبي للتواصل المتوازن مع طرفي المشهد "العسكري والمدني" بما يحفظ حقوقها في مستقبل ليبيا ، وتعمل خارجياً بالاعتماد على تأثيرها في الشأن الليبي في الضغط على القوى الدولية بشأن مصالح روسيا في سوريا وأوكرانيا "على وجه الخصوص"

    خلاصة الشأن الخارجي الروسي، التعامل بواقعية مبنية على البرغماتية بعيداً عن أي اعتبارات خارجية " وكأن روسيا تقول " من أرادنا فليحق بنا" وتعتمد روسيا في سياستها الخارجية، على أسلوب المناورات والتجاذبات، وكأنها تُشعر الطرف الآخر بأن كل شيء ممكن حدوثه، ليبقى في حالة ترقب للموقف الروسي، من جانب ، ومن جانب آخر، بقاء الرغبة في مواصلة المحادثات والمناقشات ولو لمجرد كسب الوقت، دون إحداث تغيير يرضي الطرف الآخر.

  • خلاصة القول: روسيا الاتحادية، هي المحور الرئيسي في ملفات الشرق الأوسط، ومختلف القضايا الدولية التي قد تعنينا بشكل ما، وهي شريك اقتصادي "مستقبلي متعدد المجالات" في سياق منظمة الأمن والتعاون/ شنغهاي، ومجموعة / بريكس، بمعنى أننا في حاجة واقعية وعملية "في ظل تقلب المزاج الأمريكي" إلى وضع مسارات استراتيجية للشراكة مع روسيا، لتتنامى مع الزمن، وتلتقي مع المصالح الروسية الاستراتيجية، ولا تتناقض مع الشراكات الاستراتيجية الأخرى.