المتشرك الثقافي بين العالم الإسلامي وروسيا

العلامات:

0
05-03-2019
إن الحديث في الرؤية الإستراتيجية في مجال المشترك الثقافي بين العالم العربي الإسلامي وروسيا يفرض علينا التنقل عبر التاريخ والجغرافيا والسياسية والاجتماعيات حيث تتداخل المعلومة مع الأسطورة. وحيث يتجه بنا الزمن إلى ماضي السنين. فالعلاقة الثقافية الروسية الإسلامية ضاربة في أعماق التاريخ منذ ألف سنة ويزيد. وهي علاقة تأخذ أبعادا مختلفة مترابطة ومتداخلة. والتطرق لهذه العلاقة بالأحداث الشيقة التي رسمتها تجعل من الحديث عنها ذو شجون وكأنك تسرد قصة خيالية لما فيها من روعة وبساطة وبداهة وجمال. وتظهر لك في آخر الحكاية روسيا بحلي مزركشة لتعددها الإثني والثقافي الواسع لتجد لها مكان ضمن العالم الإسلامي الذي لا يختلف عنها في تعدد الألوان وتنوع الثقافات والإثنيات والديانات ووحدة المصير والتاريخ. أول التقاء ثقافي بين العالم الإسلامي روسيا بجغرافيتها الحالية يزيد عن ألف سنة ، وكان ذلك في بدايات نهوض الحضارة الإسلامية بكل ما تحمله من معاني إنسانية متدفقة. أيام خلافة عمر الفاروق اتجهت جموع الفاتحين من الصحابة إلى باب الأبواب (دربنت) لنشر الدين الحنيف في تلك الأصقاع. وكان موعد آخر في الشمال أيام آخر الخلفاء الأمويين مروان بن محمد حينما كان يبشر بالدين الإسلامي بنفسه بين قبائل الخزر الوثنية آنذاك ، في سباق مع مبشر بالديانة اليهودية. وازداد هذا اللقاء الثقافي تعمقا جغرافيا وتاريخيا وإنسانيا على يد المؤرخ والأديب العربي الشهير محمد بن فضلان. وكان ذلك في خلافة المقتدر بالله العباسي. وقد ترك هذا الدبلوماسي العربي مخطوطة عن رحلته طبعت وترجمت لكثير من اللغات. وقد حوت هذه المخطوطة معلومات وافية عن واقع الروس والصقالبة وغيرهم من أقوام الشمال. وتعتبر لحد الآن أهم المصادر عن تاريخ تلك المنطقة في تلك الفترة. كان ذلك في ربيع سنة 921م. وقد تلاحقت الرحلات والكتابات لمؤرخين ورحالة ، منهم المسعودي المتـوفى عام (957م) 346م ، وابن الـوردي المتوفى عام 749هـ، وياقوت الحموي المتوفى عام 623 هـ – 1228م وابن بطوطة 779هـ – 1377م وابن خلدون 808هـ – 1406م  وغيرهم. والطريف أن المؤرخون العرب وحتى الآن هم الوحيدون الذين حافظوا على الاسم القديم للروس والذي تعتز به روسيا كثيرا. ويصف أحد المؤرخين العرب بكلمات غاية في الروعة وبدقة الروس قائلا: "الروس حُمر، جـَمـَّـلَ الله خلقهم، لهم نظافة في لباسهم ويكرمون أضيافهم، ويُؤون الغريب، وينصرون المظلوم، ويحسنون إلى رقيقهم، ويتأنقون في ثيابهم لأنهم يتعاطون (يمارسون) التجارة، ولهم رجولة وبسالة إذا نزلوا بساحة الحرب،.. وإذا استنفروا خرجوا جمعياً ولم يتفرقوا، وكانوا يداً واحدة على عدوهم حتى يظفروا" – أي ينـتصروا. وقد لفت انتباه ابن فضلان جمال الروس وكمال أجسامهم، فقال:" لم أر أتم من أبدانهم.. إنهم شقرٌ حُمر". هذه التعابير الجميلة التي صدرت عن مؤرخ وأديب عربي عايش ورأى بأم عينه سكان هذا الفضاء الواسع أصلت لرؤية ومنظومة غير عنصرية للآخر, فالعنصرية بمفاهيمها وسلوكاتها نتاج غربي حديث, وما كان لهذه المنظومة أن تنشأ في ثقافة يقوم أساسها على شرعنة التنوع الإثني والثقافي واللغوي الذي تحكم العلاقة ما بين مكوناته رسالة الإسلام في "التعارف" الحضاري. وهنا كذلك تتداخل المنظومتان الإسلامية والروسية بوصف الأخيرة كذلك متعددة الثقافات والإثنيات. فروسيا تعتبر في اعتقادي نموذجا حضاري حي ، لتعايش الشعوب والأديان المختلفة. إذ تضم أكثر من 100 إثنية مختلفة الطبائع والتقاليد واللغات. وفي نفس الوقت ما تزال هذه الشعوب التي تعيش في الفضاء الروسي محافظة على  هويتها بكل أبعادها. ويمكن القول أنه يوجد تشابه كبير بين القيم الاجتماعية والمثل العليا لدى روسيا والعالم العربي الإسلامي. وإذا كانت القيم لدى هذا الشعب أو ذاك وليدة عمليات تفاعل بين مختلف مكوناته على مدى آلاف من السنين لتنتج هويته الاجتماعية والأخلاقية، فإن الإطلاع والتعارف المتبادل بين الشعوب والحضارات على الإنتاج الفكري والأدبي، وحتى الأيديولوجي، قد ترك أثره على صياغة قيم إنسانية عليا مشتركة متقاربة متشابهة بين الشعوب، ولاسيما في حالة التقارب الجغرافي والتاريخي مثل ما هو ظاهر للعيان في العلاقات الروسية العربية الإسلامية. ونجد هذا الإطلاع والتعارف يترك أثره على إنتاج المبدعين الكبار. فالكاتب الروسي الشهير مكسيم غوركي يعلن مفاخراً تأثره الإيجابي بالثقافة العربية فيما كتبه عن "الأساطير"، حيث يقول :"ينبغي أن أعترف شخصياً أن الحكايات كان لها تأثير إيجابي تماماً على نموي العقلي حين كنت أسمعها من ثغر جدتي والرواة الريفيين، وقد أذهلني ورفع من تقديري للحكايات وأهميتها حقيقة كونها عملاً منشورا.ً لقد قرأت في عمر الثانية عشر " الأساطير العربية الجديدة".. لقد كانت طبعة من طبعات الأقاليم الصادرة في القرن الثامن عشر". وقد كان من قبله ، الكاتب الروسي العظيم صاحب "الحرب والسلام" و"أنا كاريننا" ليف تولستوي، الذي غرق في عشق الشرق، وبُهر بالقرآن حيث قرأه جيداً، وتنبه لحياة المجتمع العربي والإسلامي، وطالب في زمنه الحكومة الروسية بطبع "ألف ليلة وليلة" ضمن الطبعات الشعبية، التي كانت تقوم الحكومة بطباعتها للقراء الروس. وكان يُكنّ احتراماً عميقاً للقيم السامية التي دعا إليها الإسلام- ويشيد بشخصية الرسول العربي وقد ألّف كتاباً بعنوان «حِكَمُ النبي محمد» مستنداً إلى كتاب أصدره كاتب هندي مسلم يدعى «عبد الله السهروردي». وتبعه كبار الأدباء الروس الذين أثروا أيما تأثير في الحياة الثقافية والاجتماعية الروسية وأسسوا بإسهاماتهم الأدبية لبناء منظومة القيم والهوية الروسية. وقد تأثر هؤلاء بالثقافة العربية الإسلامية. ونذكر منهم الشاعر الروسي الكبير ألكسندر بوشكين، ميخائيل ليرمنتوف و ونيكولاي غوغول. و ‏يظهر جليا تأثر بوشكين بالثقافة العربية الإسلامية وانبهاره ببعض ما اطلع عليه منها في مقطوعاته الشعرية التسع المجموعة تحت عنوان «محاكاة القرآن». وكما ينقل لنا أحد المتخصصين والدارسين قوله عن بوشكين "وقد اطلع بوشكين على القرآن الكريم في ترجمته الروسية المنقولة عن الفرنسية وأكثر ما أعجب به بوشكين المعاني والقيم السامية التي تضمنتها الآيات الكريمة ما لقي تجاوباً في نفسه.لقد أعجب الشاعر بما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق ومن الحث على التضحية في سبيل المثل العليا، وعلى التحلي بالشجاعة والصمود واحتقار التخاذل والغش والخداع، والحضّ على الإحسان والالتزام بآداب الضيافة والابتعاد عن الخيانة والحرص على صيانة حياة الأسرة، ونبذ الغرور والتكبر على البسطاء من الناس، والعمل على إحقاق الحق، وخوض المعارك بشجاعة في سبيل الواجب، والثناء على فاعلي الخير الذين يتسمون بالجود والكرم ولا يفسدون عطاءهم بالمن حتى كأنه لم يكن إن الشاعر الذي تبنّى هذه القيم العليا ومجّدها في مقطوعاته الشعرية المستوحاة من آيات القرآن الكريم هو شاعر أجمعت الأمة الروسية بأسرها على حبه وإجلاله، ولذا فإن استلهامه المثل العليا القرآنية من شأنه أن يجعل من هذه المثل جزءاً من الثقافة الشعبية العامة التي تدخل مع الزمن في النسيج الثقافي للأمة وتغدو عنصراً يساعد على التفاهم والتقارب بين الثقافتين العربية الإسلامية والروسية". ونلاحظ هذا الاهتمام بالثقافة العربية الإسلامية  كذلك في مدرسة الاستشراق أو الاستعراب الروسية التي تخطوا نحو 200 سنة في عمرها. وننوه هنا للمكانة التي احتلها ويحتلها أقطاب هذه المدرسة في سلم المؤسسات الحكومية الروسية من أمثال يفغيني بيرماكون ، فيتالي ناومكين و ميخائيل بياتروفسكي. ومدى تأثيرهم في صناعة القرار والتأثير على اتجاهات الثقافة الروسية الحالية. ولا ننسى تأثير روسيا في مجريات التاريخ الثقافي والسياسي في العالمين العربي والإسلامي. وإنه لمن دواعي الاعتزاز والافتخار لدي أن ترى النور الطبعة الأولى للقرآن الكريم في المطابع الحديث ويتم تداولها بين المسلمين في روسيا. وكان ذلك في سنة 1789 في مدينة سانت بطرسبورغ أيام القيصرية قبل طبعاته في الأستانة أو القاهرة. كل هذا نسميه مشتركا ثقافيا بين الشعوب العربية والإسلامية والشعوب الروسية. ويحتاج هذا المشترك في اعتقادي إلى إعادة إحياء وتفعيل في إطار فريق الرؤية الإستراتيجة. لقد ترددت على مسامعنا كثير من التصريحات للرسميين في الدولة الروسية في أعلى هرم السلطة. وقد رسمت هذه التصريحات خطوات واضحة المعالم وحددت أين نتجه بهذه العلاقات بين روسيا والعالم العربي والإسلامي. ومن هذه التصريحات تصريح الرئيس الأسبق لروسيا السيد فلاديمير بوتين بقوله "روسيا لا تبحث عن أتباع وإنما تبحث عن أصدقاء ". وكذلك كلمات الرئيس الحالي لروسيا السيد دمتري مدفيديف  خلال زيارته للقاهرة حيث قال:" بأننا لسنا بحاجة لتحقيق الصداقة مع العالم الإسلامي، لأن روسيا تعتبر جزءً لا يتجزأ منه" . ويظهر لي من خلال ما قيل ومن خلال كل هذه اللقاءات  والحوارات أنه أصبح لابد لنا من الاتجاه بهذه العلاقات نحو الفضاء الشعبي الأهلي. وفي اعتقادي أن الشعوب ستحتضنها وتطورها بطريقتها الخاصة. وعلينا أن ندرك أن التقارب الثقافي بين الشعوب عبر الفنون والثقافة هو الأبقى والأدوم من الإقتصادي والسياسي. و عليه فإن الحاجة ملحة لبعض الخطوات الهامة في هذا الاتجاه ، ونلخص بعضها في التالي:
  • تشجيع ما يسمى بالتوأمة بين المدن في العالم العربي والإسلامي وروسيا. وفي هذه التوأمة فضاء واسع للتبادل الثقافي والتعرف على الشعوب الروسية المسلمة من خلال الفلكلور في مهرجانات مختلفة.
  • إحياء حركة الترجمة والنشر، وتشجيع الأجيال الجديدة على قراءة تاريخ العلاقات العربية والإسلامية مع روسيا. أعطاء هذه الحركة البعد الجماهيري.ومن مثال ذلك تأليف وطباعة 50 كتابا من طرف كتاب وباحثين من روسيا عن العالم العربي والإسلامي باللغة الروسية للاطلاع الجماهيري ، وإعادة طباعة الروائع الأدبية الروسية المترجمة باللغة العربية والتي نشرتها من قبل دار التقدم وغيرها من الدور أيام الاتحاد السوفييتي.
  • وإنشاء صندوق خاص لرعاية حركة الطباعة والنشر.
  • تنظيم الأسابيع الثقافية العربية والإسلامية في روسيا برعاية المنظمات الأهلية ودعم من الصناديق الخيرية والحكومات.
  • تشجيع تبادل زيارات الأدباء والكتاب والفنانين المبدعين .ورجال الصحافة والإعلام.
وفي الأخير لابد أن نقول أننا نسير بهذه العلاقة في الاتجاه الصحيح وإشراك شعوبنا في هذه العملية سيجعلها تسير بخطى ثابتة وسريعة. وستكتب الجماهير لهذه العلاقة البقاء والدوام في صائحف التاريخ. والشواهد التاريخية دليل على أننا لا نخترع جديدا ولكننا نجدد عهد قديم ونمسح الغبار عنه. د. محمد الهني