المفكر التتاري في أوائل القرن العشرين عن الوهابية

العلامات:

0
17-05-2018
موسى جار الله بيغييف

قد تكون في بعض الأحيان حتى المعلومات الزائفة مهمةً جدًا. لقد امتلأت الصحف في الأسابيع الأخيرة بأخبار مخيفة بأن الوهابيين هاجموا المدينة المنورة ودمروا القبر الشريف لنبينا صاحب الشرع الحكيم.

وعلى الرغم من أن هذه الأخبار المثيرة لغضب القارئ كانت افتراءً وكذباً واضحاً على الوهابيين المتميزين بصدق الإيمان وكمال الدين بين المسلمين، فإنها مع ذلك نُشِرت في هذه الصحف. وذلك لأن البريطانيين ظلوا بلا حماية تماماً أمامَ الخطر الذي يشكله الوهابيون، بينما حقق الوهابيون قوة رهيبة في حركتهم. شاهد ذلك موظفو البرقيات (التيليغراف) فبدأوا ينشرون معلومات كاذبة حول الأحداث الأخيرة، والتي أصبحت بدورها مهمة جدًا بالنسبة لنا. في الواقع فإنهم نشروا أخباراً صادقة مع أنهم كانوا يريدون إخفاءها عنا؛

مكة في أيدي الوهابيين، ولم يستولِ ابن سعود على أراضي مكة بمساعدة الإنكليز، وإنما فعل ذلك بقواته الخاصة. في هذا العام قام الأمير ابن سعود بأداء شعائر الحج بجيشه المسلح الذي يبلغ قوامه مائة ألف جندي. ونظرًا لحرمة المدينة المنورة وكذلك رغبةً في عدم إلحاق الضرر بأهل هذه المدينة لم يهاجمها، وإنما اضطر للالتفاف بالمدينة من كل الأطراف ومحاصرتها.

سوف تكون المدينة في أيدي الوهابيين قريبا. ففي هذا الوقت سوف تقوم جميع قبائل شبه الجزيرة العربية. سوف تصبح السواحل البحرية والسكك الحديدية في أيدي الوهابيين. وسوف تنتشر حركة الوهابيين نحو سوريا. ومثلما قام الدروز ضد الاستعمار الفرنساي ستقوم سوريا كلها ضد البريطانيين. ومسألة الموصل (المدينة في العراق) بكل مشاكلها لا تزال في الحسبان. ومن الممكن أيضًا أن تندمج قوى ابن السعود وتركيا.

إن خطر ابن سعود سوف يصل إلى أراضي العراق وينتهي إلى أطراف الهند وعدن. هذه الأحداث المحتملة التي تكاد أن تتحقق، هي أحداث مهمة للغاية بالنسبة للجزيرة العربية الصحراوية. فإن ذلك سوف يتحقق، وإن لم يكن اليوم، ففي المستقبل القريب ولا محالة.

كل هذه الأكاذيب الواضحة والافتراءات المثيرة للشحناء تعبّر عن عجز الإنكليز أمام الوهابيين. بسبب غفلة حكومات بعض الدول مثل إيران ومصر والهند، وبسبب مكر الإنكليز صارت الاضطرابات البسيطة في الشعب تعتبر ظاهرة عادية ولعبة غير مهمة.

على الرغم أن سياسة الإنكليز كانت تولي اهتماماً لمثل هذه الألعاب، فإنها في المنظور الإسلامي لم تضر وما كانت لتضر لابن السعود. لو لا أحوال العالم الإسلامي بهذه الدرجة من الغفلة لما تمكن وكلاء التلغراف من إشاعة مثل هذه الأكاذيب علناً.

ومع ذلك فإني أعرب عن شكري لوكلاء التلغراف على ما نشروه من الأكاذيب؛ لأنهم بذلك لفتوا أنظار العالم كله إلى الحركة الوهابية المليئة بالعبر، معلنين قوتهم العظيمة للمجتمع الإسلامي بأكمله.

لقد أعطونا فرصة للتحدث عن حقيقة الوهابية وعن أهدافهم الدينية والسياسية. على الرغم من أن روح الحرب العالمية والثورة العظيمة سببت في تعجيل حركة الوهابيين إلى حد ما، وفي توسيع أهدافهم ومبادئهم الدينية والسياسية، إلا أن الوهابية ظلت اتجاهاً قديماً في العالم الإسلامي. كانت هي أول وأبرك حركة ذات همّة عظيمة وجهادٍ قويٍ في مسيرة إيقاظ الشعوب الإسلامية.

أول من وضع الأساس لفكرة الوهابية كان المجتهد العظيم ومجدد القرن الثالث عشر الهجري محمد بن عبد الوهاب المولود حوالي عام 1700 الميلادي في بلاد نجد في الصحراء العربية التي كانت بعيدة عن الثقافة العالمية الفاسدة. تربّى في عائلة عادية لم تتميز بشيء عن باقية العوائل ولم تكن مدللة بالملذات الدنيوية.

ترعرع صبياً في بيئة بدوية صافية نوعاً ما، وهنالك تشكلت عقيدته. تربى في طريق المعرفة والأخلاق، وكان صاحب همة عالية في طريق طلب العلم، استطاع أن يحقق درجة المجتهدين.

وكان العالم الإسلامي في ذلك الوقت خالياً تماماً من كبار العلماء المثقفين وكان يتخلف في النمو المادي والديني. فقد سلك محمد بن عبد الوهاب سبيل الجهاد معلناً الأذان وداعيا الأمة الإسلامية إلى الصراط المستقيم، متحلياً بالإيمان القوي وبالرغبة في نشر العلم.

لقد طاف محمد بن عبد الوهاب في سبيل ذلك على شبه الجزيرة العربية طولا وعرضاَ.

في وقت قصير جلبت جهوده نتائج عظيمة، الدعوة التي قام بها انتشرت وتم قبولها في شبه الجزيرة العربية. وقد اجتذبت هذه الدعوة – في وقت لاحق – زعيم قبيلة آل سعود، الذي كان آنذاك عالماً كبيراً في منطقة نجد كلها وهو عبد الله بن سعود.

بالإضافة إلى الوزن الديني يصبح كذلك صاحب سلطة عظيمة.

بعد هذه الأحداث يلجأ محمد بن عبد الوهاب إلى قوة سلطان عبد الله بن سعود ويتم تأسيس دولة مستقلة في نجد.

تلك الدولة التي تأسست من خلال جهود محمد بن عبد الوهاب في نجد هي مثال لإدارة الدولة على عهد دولة الخلفاء الراشدين، حيث ازداد الناس تقوى، وامتلأت المدارس والكتاتيب الواقعة في واحات الصحراء الشاسعة بالعلم والتعليم، وامتازت المؤسسات القضائية بكامل العدالة، والحكام بالصدق.

توفي محمد بن عبد الوهاب عام ١٧٨٧م. استمرت تلك الحركة، والدولة، ونمط الحكم مما كان مرتبطًا باسم ابن عبد الوهاب حتى بعد وفاته. أعادت الوهابيةُ الإسلامَ إلى عهد الاجتهاد الأول الذي تميزت به فترة ولاية الخلفاء الراشدين، وبالتالي سعتْ في إعادة الاستقلال لممثلي الإسلام في تحرير الدين من البدع والمعتقدات الفاسدة. وفي الواقع، فإن الوهابية كانت هي طريقة ابن تيمية.

ثم يأتي محلّ ابن عبد الوهاب تلاميذه النجيب عبد الله بن سعود. في ذلك الوقت لم يعد للدولة العثمانية أي أثر من مكانتها السابقة وقوتها. لم يبقَ للدولة غير الاسم. تُرك الحرم المكي والمدني وحتى أراضي كل شبه الجزيرة العربية عموماً بلا اهتمام وأصبحت كمنطقة مهجورة. أما عبد الله بن سعود، فَلِكَونِه تلميذاً قوياً ولائقاً بأستاذه محمد بن عبد الوهاب، فقد احتوى في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر أراضي مكة المحرمة والمدينة المنورة تحت جناح حكمه.

انتشرت الوهابية في جميع أراضي شبه الجزيرة العربية، وفي عام 1814 كان ابن سعود على استعداد للاستيلاء حتى على أراضي الشام وسوريا. بقي السلطان التركي محمود في وضع عاجز تمامًا، فطلب محمد علي المساعدة من الباشا. بمساعدة القوات الموالية للباشا يقوم الحاكم المصري محمد علي بإعادة أراضي المدينة من أيدي الوهابية. بعد ذلك، اضطر الوهابيون على التراجع إلى صحراء نجد. وكان آنذاك يبدو أن زمن حكمهم السياسي الذي لم يستمر طويلاً قَرُب إلى الزوال. لكن الأحداث الأخيرة لم تؤثر على للوهابيين إلا أنها أضافت لعزمهم وحركتهم الدينية قوةً جديدةً. فتصبح نجد في فترة وجيزة عاصمة الاجتهاد.

من ذلك، امتدت أفكرة الاجتهاد إلى أراضي الهند وأفغانستان.

وتسربت إلى صحاري أفريقيا من قبل السنوسية.

وكذلك حضرة جمال الدين الأفغاني مع كونه مشهوراً في حركة التحرير والصحوة كان أحد الشخصيات البراقة ممن يمثل الوهابية، وكان تلميذاً متمكناً لابن عبد الوهاب.

تلك الحركات التي حدثت في مصر على مدار آخر ثلاثين أو أربعين سنة هي في الحقيقة نتيجة لأنشطة الوهابيين.

في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر وهي سنوات الحرية والاستقلال شهدت الحركة الوهابية بعض الركود. بدأت الدول الأوروبية تغزو دول الإسلام. تميز القرن التاسع عشر بغزو البلدان الإسلامية.

تنتصر روسيا على أراضي قوقاز وتركستان، تُنشر إنجلترا سلطتها في جميع أنحاء الهند ومصر، تستولي فرنسا بلاد المغرب والجزائر وتونس. تحتل الدول الأوروبية أجمل مناطق في تركيا التي نأت بنفسها عن الشرق تماماً ووجهت أعمالها الخيرية نحو أوروبا.

إذا القرن التاسع عشر في تاريخ الثقافة العالمية قد اتسم بقرن النمو والازدهار في الثقافة والعلوم والتعليم، فإن الأمم الإسلامية عايشت عصر الانهيار والدمار الكامل والاحتلال الشامل.

لقد نقلت الثقافة الرأسمالية الأوروبية إلينا رذائلها، مثل المودا والألبسة الخاصة بمجتمعها، والمقامرة والمشروبات المسكرة. لكن في الوقت نفسه لم يأخذ المجتمع الإسلامي منهم تكتيكاتهم والجوانب الإيجابية من التنمية. توغلت جميع عيوب الثقافة الحديثة في العالم الشرقي، متخطية الجمارك ومستولياً على هذه الأراضي من جميع الجهات.

العالم الشرقي الذي لم يكن مطلعاً على فضائل الثقافة المدنية وجوانبها الإيجابية كان ينظر باحتقار إلى المعايير الرأسمالية المتصفة بفساد وشر وفجور، فمن هنا تخلى تماما عن هذه الثقافة، وبالطبع كان معذوراً في ذلك.

ربما في كلام الدبلوماسيين الذين شمروا عن ساعد الجد في الدراسة والبحث عن الجوانب المعيبة في الشرق كان أيضا نصيب من الحق، لكن توجد لدى الشرق جوانب في غاية الأهمية وفي غاية القيمة لن تتخلى عنها أبداً. إن الشرق الذي لم يرَ في الحضارة الأوروبية سوى الرذائل سوف ينفر عن أوروبا ويعادي نظامها الرأسمالي.



كشفت الحرب العالمية عن جميع جوانب العجز الذي تتصف به الدول العظمى.

إن الاتفاقيات والوعود الكاذبة الشيطانية للدول الكبرى في مجال الاقتصاد والسياسة قد دمرت تماماً في أعين الشرق مكانة تلك الدول التي كانت تعتبر آنذاك عظيمةً وضيّعت الاحترام الذي كان يشعر به الشرق تجاهها. لم يبقَ لدى الشرق شعور بالإجلال والاحترام والاعتراف بمكانة تجاه أي دولة وتجاه أي بلد منها. إن الشرق الذي كان يكره أوروبا ويعادي معاييرها الرأسمالية المتصفة بالغرور والعدوانية الشرسة استيقظ أخيرا استيقاظاً تاماً. كانت النعمة التي جلبتها الحرب العالمية الأولى للعالم الإسلامي هي الصحوة. حقاً، إنه حدث سياسي هام عظيم في القرن العشرين يجري مرة أخرى في شبه الجزيرة العربية.

ترك الوهابيون أوديتهم الهادئة ودخلوا الساحة السياسية مرة أخرى جماعةً مسلحة، قوية، عظيمة. في تلك الأيام كان يقود الحركة الوهابية الحاكم القوي عبد العزيز بن عبد الرحمن بن الفيصل آل سعود. وكان حفيدَ ذلك عبد الله بن سعود الذي قاد الحركة الوهابية منذ ١٠٠عام. كان عبد العزيز بن عبد الرحمن متميزاً ببلاغته وكان فقيهاً وملمّاً بالوضع الحالي للأمور.

الوهابية في هذه الأيام ليست كالوهابية قبل مائة عام؛ لقد تعرضت للضغط السياسي الأوروبي الذي استمرّ لمدة قرن، وتلقّت من الحرب العالمية العظمى دروساً مفيدةً عجيبة. وأيضا، فإنّ الدروس التي تلقتها خلال فترة ما بعد الثورة من قبل القادة البلشفيين في غاية الأهمية.

ثم الثورة في الخلافة التركية لقد وسعت للوهابيين دائرة الآمال في اتجاه آخر. وأخيرا، فإن الحركتين القويّتين: الوهابية والسنوسية اضطرتا لتوحيد صفوفهما، فتم ذلك في بلاد الحرمين عند الكعبة المشرفة المقدسة لدى العالم الإسلامي. بالنظر إلى الأوضاع السياسية والدينية قامت هاتان القوتان بالمعاهدة.

١. حماية تامة لأراضي الكعبة المقدسة من قوى الدول غير الإسلامية، ويكون ذلك وظيفتهم الأساسية، وغايتهم المقدسة، ومبدأهم الرفيع.

٢.  أراضي الحرمين (منطقة الحجاز) ستكون منطقة منفصلة تتمتع بالاستقلال التام. العالم الإسلامي بأكمله سيقوم بحماية الحجاز – الحرم المكي والمدني – مثلما يحمون أرواحهم.

٣. يتم تشكيل مؤتمر مشترك تشمل مهامه حل جميع مسائل الحجاز. هذه كانت الأهداف الدينية والسياسية للوهابيين في ذلك الوقت.

ثم إن انتشار الحركات الثورية انتشاراً سريعاً في إطار انتشار موجة سياسية واقتصادية للعالم الرأسمالي كان مساعداً فعالاً للحركة الوهابية.

وكذلك الحركة البروليتارية (حركة العمال) المنتشرة في كل مكان تخدم في النهاية المقاصد العظيمة للدول الإسلامية. لقد أدرك قادة الحركتين – الوهابية والسنوسية – فوائد هذا الوضع؛ لقد وحدوا جهودهم مستفيدين من اللحظة المواتية وذلك لمزيد من حركة مشتركة. فهم لن يفوتوا فرصتهم ليصلوا إلى غرضهم  وليحرروا الجزيرة بأكملها. ستكون هذه إحدى البركات العظيمة التي ستجلبها إلينا الثورة العظيمة. هذا هو إيماني وأمنيتي.

موسى جار الله بيغييف

إصدار دار النشر "الأسلام عبر العصور" – ١٩٢٥، عدد ٧، ١٥٧-١٦٠ صفحة.



مترجم: رميل فصاحوف