سراب في نوغوش

العلامات:

0
05-07-2018

أحمد الرماح


ذهبت مؤخراً إلى جمهورية بشكورتستان ( بشكيريا ) التابعة للإتحاد الروسي الفيدرالي لزيارة مساجد هذه البقاع العريقة والأصقاع الهائلة والتي تعتبر بوابة سيبيريا الغربية حيث تصل درجات الحرارة في الشتاء الى خمس وأربعين درجة تحت الصفر. ويوجد في هذه الجمهورية ألف مسجد من أصل عشرة الآف مسجد منتشرة في أنحاء روسيا ومجاهلها المترامية الأطراف. وعند كل زيارة لي لمسجد في هذه الأماكن النائية أقول في نفسي سبحان من يسّر نشر الإسلام في هذه البقاع. كما أتساءل دوماً كيف وصل الصحابة والتابعون إلى هنا وما هي الوسائل التي أقلتهم لهذه الفيافي والمفازات بل كيف إستطاعوا التفاهم مع أصحاب الأرض ونشروا الدين الحنيف في هذه الأرجاء ضمن ملحمة لم تُسطّر روايتها بعد!


وحيث أن زيارتي هذه المرة بها متسع من الوقت، فقد طلب مني صاحبي الروسي مرافقتهم لرحلة نهرية لن تُنسى حسب قوله، فأبديت ممانعة أكيدة وحاولت التملص وبإصرار في البداية حيث أني لم آت للتنزه وإنما لأداء واجب الزيارات ثم العودة إلى بلدي ولكني رضخت وإستسلمت لإلحاحه الشديد وتأكيده بأن الرحلة ملهمة وأخاذة! ولم أكن مستعداً البتة لا من حيث الملابس ونوعية العفش ولا من أي شيء آخر يمت لرحلة مائية إطلاقاً ولكن قلت في نفسي ولِمَ لا أسلك طريق المغامرة هذه المرة!


وحيث أن طريق الرحلة يبدأ من قازان عاصمة جمهورية تتارستان مرورا بمدينة أوفا عاصمة جمهورية بشكورتستان، فقد طلبت من صاحبي وأملاً بإختصار الوقت أن يمروا بي في طريقهم بدلا من البدء معهم فأستجاب لطلبي. وعند مرور الفريق الذي سأنضم اليه في هذه الرحلة النهرية الى أوفا ركبت معهم في باصٍ قديم جدا ويجب إرساله للتشليح بل للمحرقة فوراً حيث تعطل بنا أكثر من مرة وأضطررنا لمغادرته لما لم يستطع إكمال المسير فأكملنا الرحلة على مراحل حتى نصل للنهر الموعود!


وصلنا عند الغروب إلى حافة النهر بعد مسيرة طولها ٤٥٠ كم في غابات شاسعة فنصبنا الخيام وقمنا ببناء حمّام السونا الروسي والذي يعتبر من أولويات أي رحلة في هذه البلاد. ولم أستطع النوم تلك الليلة نظراً للبرد الشديد إذ لامست درجة الحرارة الصفر المئوي في شهر تموز! وكان لصوت الحيوانات والحشرات الطائرة والأفاعي الزاحفة موسيقى متميزة تبقى محفورة في الذاكرة ! وللمعلومية، فهذه المنطقة مليئة بالدببة والذئاب والخنازير الوحشية حتى النحل هناك يسمى بالنحل المتوحش والذي ينتج أفضل أنواع العسل في العالم حسب مقياس معهد باريس لجودة النحل. وقد غفوت إغفاءة بسيطة من شدة التعب ولكن صحيت على صوت أبقار وثيران فوق رأسي تهاجم أمتعتنا وتأكل أطعمتنا! يا إلهي! كل شيء غريب في هذا المكان حتى البقر لم يعد أليفاً!


وعند الخيوط الأولى للفجر الذي لا يفصله عن صلاة العشاء سوى ساعتان مع بقاء نور الشفق في الأفق طوال أشهر الصيف، شددنا أمتعتنا لنرحل عبر النهر لمسافة تنيف على المائة كيلومتر. فحملت أمتعتي وشنطة سفري لأضعها في قارب مطاطي لا يقي شيئا وقام بمجاورتي في هذا القارب أربعة أشخاص من الجمهوريات الروسية بالإضافة إلى خروف حي يعتبر زاد المسافر وكان هذا الخروف يكرمني طوال الرحلة بأصوات رخيمة تعبر عن شجن ملاقاة المجهول! ومن أشد أنواع العذاب على المرء أن يصاحب من لا يتكلم لغته في رحلة بقارب نحو مجهول فيصبح كعذاب الهدهد الذي نوى نبي الله سليمان بحبسه مع طير من غير ذي جنسه ليذوق العذاب!


ومن المفاجئات التي إكتشفتها في الرحلة أن صاحبي أول مرة يقوم بمثل هذه الرحلات! أما المفاجأة الكبرى والتي تبينت لي أثناء الرحلة، أن الدليل السياحي الذي يقود الرحلة لم يجرب هذا النهر وليس لديه المعلومات الدقيقة على الأرض وإنما إعتمد على خرائط جوجل لتحديد هذه الرحلة الملهمة! كما أن النهر هذه السنة وعلى غير العادة لم يحظ بكمية وافرة من ثلوج جبال الأورال فأصبح ضحلاً والحركة به أضحت ذات تحديات جسام إذ يتوجب على ركاب القوارب النزول كل خمس دقائق تقريبا لدفع قواربهم التي تصادم الصخور الحادة واللزجة لإكمال المسير! ومن غرابة النهر كذلك، أنني لم أرْ أي سمكة فيه! إنها حقاً رحلة للمجهول!


مشينا ثم مشينا ثم مشينا حتى أنهكنا التعب وفقدنا القوارب الأخرى ولم يكن لدينا أجهزة إتصال ولا مؤونة غذائية غير الخروف الذي يكرمني بصوته كلما رآني مكفهراً وكأن لسان حاله يقول كلنا في نفس القارب وجميعنا نتشاطر ذات المصير. مرّت الدقائق كالسنين والساعات كالدهور ونحن نجدّف نحو لا شيء ولم نر أي معلم لأي حياة أو حضارة أثناء هذا المسير! وبعد مرور عشر ساعات من المكابدة والتمسك بالأمل، بدأت أتخيٌل الأشجار الساقطة على ضفة النهر بأنها أنابيب الصرف الصحي لقرية ما كما خُيّل لي أن بيوت بعض الحيوانات على الأشجار بأنها مناحل وبعض الشجيرات بأنها خيال المآته لطرد الطيور عن الزروع القريبة للقرية! أما أشد لحظة مرت بي عندما بدأت بتخيّل الأخضرار البعيد بأنها بيوت للفلاحين مطلية باللون الأخضر! بدأ أصحابي بالقلق وساد الصمت بشكل مهيب ومطبق! وفي كل لحظة تمر أتمثل المثل الشعبي ( أيش لك بالبحر وأهواله ورزق الله على السيف ). وبعد ذلك رأيت زول رجل من بعيد فأشرت لأصحابي بذلك وكنت مشتبثاً برأيي فضحكوا وقالوا لي بلغة بالكاد أفهمها أنها ربما حورية النهر فقلت في نفسي كل شيء في بشكورتستان جائز حتى نهرهم به حوريات! ولما إقتربنا أكثر تأكد لنا بجلاء أن الذي أمامنا رجل وليس جان فصحت به من بعيد لشحاحة الروح وحب الدنيا ورغبة بالتمسك بخيوط الأمل فإذا به طفل يقتات على شيء من النهر لا نراه! كل شيء هنا يدعو للغرابة! وأشار إلينا أن القرية ليست بعيدة فسرت الدماء في عروقنا وبدأ نبض الأمل بالتوهج كما أخذ هرمون الإدرنالين بالسكون!


ولما وصلنا القرية أكرمنا فلاح بالمبيت في بيته حيث أن الجو في الخارج كان بارداً ورطباً جدا فبت تلك الليلة على سرير يخيّل لي أنه القارب يتحرك بي يمنة ويسرة من شدة الإنهاك ونحمد الله أن يسر لنا هذا الفلاح الذي قام بإيصالنا لأقرب قرية توجد بها سيارة لنستقلها للعودة الميمونة!


ربما تدور في أذهانكم أيها القراء الإعزاء أسئلة كثيرة حيث أن هناك فراغات لم تُعبئ بعد إذ أن المقال لا يتسع لسرد جميع مجريات هذا الرحلة التي تسلب الألباب وتجعل الحليم حيران!


إنها حقاً رحلة لن تنسى كما قال لي صاحبي الروسي!


آه…. نسيت أن أذكر لكم أسم النهر فأسمه نوغوش والذي حتما نقش في قلبي نقشاً آسراً وأخّاذاً!




https://www.facebook.com/rasultav/videos/2484710034876207/