تتارستان: المفتي الجديد.. هل يطفئ نار الصراع الديني القائم ؟

news-64duGs5Xj5

news-64duGs5Xj5

العلامات:

0
05-11-2013
حظيت جمهورية تتارستان في السنوات الأخيرة باهتمام كبير في وسائل الإعلام المحلية والفيدرالية، حيث ركزت في تغطيتها على الأسلمة التي يشهدها المجتمع منذ عشرات السنين، ومظاهر الصحوة الإسلامية التي بدأت ظاهرة للعيان في كل شوارع ومدن وقرى الجمهورية، وقد زاد الاهتمام بعد تنحية المفتي السابق عثمان إسحاقوف، حيث ظهرت الاختلافات بين قادة الإدارات الدينية وعدد من الأئمة المحسوبين على التيار الأكثر تشدداً «ما اصطلح عليه هناك بالتيار السلفي». الشيخ عثمان إسحاقوف اتهم بانفتاحه على كل الحركات الإسلامية المتواجدة في تتارستان، فقد عُرف عن الرجل بإمكاناته الجيدة في توحيد كل هذه التوجهات تحت سقف الإدارة الدينية دون تدخله المباشر في تفكير كل منها، ما دامت تحركاتها داخل الإطار القانوني، ولا تثير مشكلات حقيقية في المجتمع، من ناحية أخرى اتهم المفتي السابق بتساهله في إرسال العديد من الطلاب التتار للدراسة في المملكة العربية السعودية، وهو ما اعتبر سبباً رئيساً في تواجد السلفيين المتشددين على حد وصفهم. تفسير سطحي لكن المتابع للشأن الإسلامي في الجمهورية يفهم أن هذا التفسير سطحي لمثل هذه الظواهر، فالقائمون على الإدارات الدينية في معظمهم لا يملكون علماً شرعياً، ويتهم الكثير منهم ببعدهم عن الالتزام الشرعي، وهو ما زاد من الهوة بينهم وبين الشباب الباحث عن العلم والتعلم والقدوة الحسنة، التي توافرت بطريقة أو بأخرى لدى قلة قليلة من الأئمة الشباب. مع توسع الخلافات داخل الإدارة الدينية ضغطت الدولة على المفتي عثمان ليقدم استقالته، وينأى بنفسه عن كل ما يتعلق بالعمل الإسلامي في الجمهورية، وبسرعة غير معهودة تم تنصيب المفتي إلدوز فائيزوف الذي كان إماماً ومساعداً للمفتي السابق لفترة طويلة، وعلى ما يبدو أن اختياره لم يكن اعتباطاً، فقد كان من المعروف عنه رفضه التام للمدارس الإسلامية العربية والتركية، واعتبارها أساساً في بعد المجتمع التتري عما يسمونه الإسلام التقليدي، وجلب طرق وفهم جديد للإسلام لم تعرفه المجتمعات المسلمة في تتارستان عبر تاريخها، حسب قولهم. بمجرد اختياره رسمياً من قبل الهيئة العمومية للإدارة الدينية في تتارستان، بدأ فائيزوف بمحاربة ما يطلق عليهم في تتارستان «الوهابيين»، فتم طرد العديد منهم ومحاولة وضع مناهج لتدريس الإسلام «التقليدي» في جميع مدارس ومساجد الجمهورية، كما تمت إزاحة مجموعة من الكتب الإسلامية وإدخال البعض منها في قائمة الكتب المحرمة في روسيا الاتحادية، على أساس أنها تدعو إلى الغلو والإرهاب، وتم التضييق على عدد من الدعاة الذين لا يدخلون تحت سلطة الإدارة الدينية، وإيقاف نشاطهم بالكامل بالرغم من انتشار صيتهم على نطاق الجمهورية بل بعضهم تعداها إلى نطاق روسيا ككل. ولأول مرة في تاريخ الجمهورية تمت في يوم 19 يوليو 2012م عمليتان «إرهابيتان» استهدف فيها نائب المفتي ولي الله يعقوبوف الذي قتل رمياً بالرصاص أمام بيته، وتمت في نفس اليوم والساعة محاولة تفجير سيارة المفتي فائيزوف لكنه خرج من العملية بسلام، مع إصابات طفيفة في رجليه. عمليات الاغتيال اتهمت فيها جماعات متشددة لها علاقة بما يسمى بإمارة القوقاز، وظهرت أشرطة فيديو بعد العملية يشير فيها أصحابها إلى أهمية رفع راية الجهاد في الجمهوريات الإسلامية الروسية لتحكيم شرع الله. اللافت للانتباه أن المجتمع التتري معروف بطبيعته ببعده عن مظاهر العنف، بل إن تتارستان كانت مثالاً يحتذى في التعايش السلمي بين جميع الطوائف الدينية وبُعد المجتمع ككل عن مظاهر الغلو والتطرف، ويفتخر بها في وسائل الإعلام كعاصمة الإسلام المعتدل في روسيا الاتحادية. كل هذا زاد من الأسئلة عمن يقف وراء هذه الحركات؟ وعن أهدافها؟ وتوقيت العملية التي غيرت تماماً مسار تعامل الدولة مع الصحوة والأسلمة التي تشهدها البلاد؟!

استقالة أو إقالة المفتي لم تمر أيام طويلة بعد خروج المفتي فائيزوف من المستشفى حتى أعلن في نهاية شهر فبراير 2013م عن تنحيه، وإقالة نائبه عبدالله أديغاموف من منصبه، وتم تعيين قائم بأعمال المفتي الشاب اليافع (27 عاماً)، نائب المفتي في الشؤون التعليمية وإمام وخطيب مسجد «تونوشلوك» في العاصمة قازان الشيخ كاميل ساميغولين. كثر الحديث عن شخصية المفتي الجديد، ومع حداثة سنه إلا أن الرجل يملك إمكانات علمية لا تتوافر عند غيره ممن سبقه. من ناحية أخرى فقد جاء في البيان الرسمي الذي صدر عن الإدارة الدينية أن المفتي قد تنحى بسبب ظروفه الصحية ولزوم بقائه تحت العناية الطبية لفترة طويلة، لكن المراقبين يعتقدون أن مرحلة المفتي قد انتهت، وأنه لم يعد قادراً على إتمام المهام التي من أجلها تم اختياره، وهو ما يقوله المستشرق «ألكسي كونوف»: «إن قرار مغادرة المفتي لمنصبه كان نتيجة لزيادة الضغط في الفترة الأخيرة على الحياة الدينية في تتارستان، فبعد محاولة الاغتيال كُشفت فجأة انقسامات خطيرة داخل القائمين على الشؤون الدينية في الجمهورية، والتي لم يكن عامة الناس يعرفون عنها شيئاً. ربما تفاقمت بعد رحيل المفتي السابق عثمان إسحاقوف، وورث المفتي فائيزوف هذا الإرث الصعب، فالمجموعات المتشددة ليست راضية عن السياسة التي تنتهجها السلطة، وتدخلها المفرط في شؤون الأمة المسلمة». ويرى «كونوف» أن المفتي فائيزوف «كانت توجهاته علمانية، وهو ما لم يرق لبعض الأصوليين العاملين في الإدارة الدينية ما زاد الضغط الداخلي عليه»، وهو ما يجعل المهمة صعبة أمام المفتي الجديد الذي هو مطالب بإيجاد «طبخة» سحرية تتوافق مع متطلبات الدولة وأجهزتها الأمنية، وبين جميع التوجهات في مجتمع الأئمة والخطباء.

من جهة أخرى يرى راييس سليمانوف رئيس المركز الإقليمي للدراسات العرقية والدينية بمنطقة الفولجا التابع للمعهد الروسي للدراسات الإستراتيجية، والمقرب من دوائر القرار السياسي «أن استقالة المفتي فائيزوف التي حصلت تحت ضغط الكرملين في قازان تعتبر خطأ سياسياً كبيراً من قبل السلطات الإقليمية، فالخط المعارض الذي انتهجه المفتي السابق لأي تأثير أجنبي (عربي وتركي) حصد من ورائه العديد من الأعداء، وعرض نفسه لهجوم إرهابي وتعرض لهجوم كلامي عنيف من قبل الوهابيين». ويعتقد سليمانوف أن المفتي قد تم التخلي عنه من قبل السلطات والتضحية به وتقديمه «كبش فداء لمصلحة الأصوليين وذلك قبل بدء الأولمبياد في العاصمة قازان»، معتبراً أن ذلك نوع من الرضوخ للنخبة السياسية البيروقراطية المحلية، ولعدد من رجال الأعمال والأئمة السلفيين، كما تعرض المفتي لحملة تشهير وتشويه لصورته في وسائل الإعلام القومية، التي يسيطر عليها الكرملين في قازان.

المفتي الجديد ولد المفتي كميل في 22مارس 1985م، من أتباع العقيدة الماتوريدية وللمذهب الحنفي في الفقه، درس في حلقات المساجد، ثم انتقل إلى المدرسة المحمدية بقازان؛ ليكمل بها تعليمه الديني، ثم واصل في عام 2003م تعليمه الديني في جامعة شمال القوقاز الإسلامية (محج قلعة – الداغستان). انتقل بعدها إلى إسطنبول من سنة 2004 إلى 2007م للدراسة حيث حفظ القرآن الكريم، وحصل على إجازة لتعليم العلوم الشرعية في الفقه وأصوله والعقيدة، وأصول الحديث، وعلوم اللغة العربية من النحو والصرف، كما تحصل على إجازة لتدريس الكتب الستة في الحديث تحصل عليها من الشيخ عبدالرحمن سعيد بن ناخلة (المغرب). عمل منذ عاماً 2008م إمام مسجد «تينيشليك» بقازان، ثم عين في 2011م مديراً لقسم الطباعة والنشر في الإدارة الدينية لجمهورية تتارستان، وفي عام 2012م عين نائباً للمفتي للشؤون التعليمية، وكذلك عضواً بمجلس إدارة الإدارة الدينية المركزية، وعضواً في مجلس العلماء، وعضواً في مجلس الخبراء لدى الإدارة الدينية. في عام 2013م تخرج في كلية الدراسات الإسلامية في الجامعة الإسلامية الروسية، ويجيد اللغتين العربية والتركية.

د. رياض مصطفى