منذ سنتين والعالم يقف متفرجًا على مجزرة بشعة، بل الحقيقة أنّه كان يقف منذ أكثر من سبعة عشر عامًا شاهدًا على حصار خانق لم يعرف له التاريخ مثيلًا، في بقعة صغيرة تضم ما لا يقل عن مليوني إنسان، يطبق عليهم جيش الاحتلال الإسرائيلي بكل ما يملك من إمكانيات عسكرية وتقنية، بل وسياسية وجغرافية.
غزة اليوم ليست مجرد اسم جغرافي، بل جرح مفتوح في جسد الأمة، يفيض دمًا ووجعًا كل يوم، ويكشف حجم العجز والصمت الدولي أمام معاناة لا تتوقف. أطفالها يكبرون على أصوات القصف بدل ضحكات الطفولة، ونساؤها يشيّعن أبناءهن تحت ركام البيوت بدل أن يودعوهم إلى المدارس، ورجالها يواجهون قسوة الاحتلال والحصار في مشهد تتجسد فيه مأساة إنسانية وأخلاقية وسياسية تتجاوز حدود فلسطين لتصبح وصمة على جبين العالم بأسره.
يتفنن جيش الاحتلال في التنكيل بهذا الشعب المظلوم، وبشكلٍ ممنهج يسعى إلى إفراغ غزة من أهلها والتوسع نحو بحرها، ليستولي ــ مع الحليف الاستراتيجي له أمريكا ــ على ثرواتها من الغاز المكتشف مؤخرًا بمليارات الأمتار المكعبة.
لم تكن مشاهد الأطفال القتلى والأعضاء الممزقة على الأرض بفعل القصف، ولا الجوع الذي خيّم على القطاع وأهله، سببًا في تحريك الضمير الدولي لفرض وقفٍ لإطلاق النار على دولةٍ لا تعبأ بالقرارات الأممية ولا تراها إلا حبرًا على ورق. بل إن العكس هو الذي حدث؛ إذ بدا وكأن آلة الحرب قد مُنحت ضوءًا أخضر لتواصل جرائمها تحت ذرائع واهية، فيما بقيت الأصوات المطالبة بالعدالة خافتة، يطغى عليها صخب المصالح وصفقات السلاح. وهكذا تحولت غزة إلى ساحة مفتوحة للتجريب الوحشي، يدفع ثمنه الأبرياء العُزّل، في ظل عجزٍ رسمي وصمتٍ عالمي يُعيد إلى الأذهان أبشع صور التواطؤ في التاريخ الحديث.
وعلى ذكر التاريخ، قد يتساءل المرء: هل هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها شعبٌ لحصار وتجويع وتقتيل بلا هوادة؟ لقد عرف التاريخ محطات سوداء مشابهة، أظهرت أن الإنسان حين تُسلب منه إنسانيته يتحول إلى أشرس من الحيوان المفترس، يقتل بلا رحمة، غير عابئ بطفولة بريئة، أو أمومة دامعة، أو شيخوخة منحنية بثقل السنين. وما يجري في غزة اليوم ليس سوى حلقة جديدة من هذا السلسال المظلم، لكنه أكثر قسوة، لأنه يحدث في عصر يزعم الحضارة والإنسانية وحقوق الإنسان.
إن ما نراه في غزة اليوم على شاشات التلفاز، وما تنقله الهواتف النقالة، ليس إلا قطرة من بحر الدماء والدمار الممنهج الذي تمارسه إسرائيل في حربها ضد شعبٍ كامل محاصر في بقعة صغيرة، لا منفذ له ولا ملجأ. إننا ونحن نكتب هذه السطور، لا نفعل ذلك لتحريك الضمير العالمي؛ فالضمير الذي لم تهزه الأشلاء الممزقة والمشاهد الحية، فهل تهزه كلماتٌ كُتبت بماء الدموع والأسى؟ هذه الكلمات صرخة في وجه البشرية كلها، بسياسييها ومفكريها وعامتها، علّها تخرج من هذا الصمت الرهيب، صمت الأموات الذين لم يعد في أجسادهم روح لتحركهم. نقول لهم: أوقفوا هذه المجازر، أوقفوا هذه المشاهد المرعبة التي تتكرر كل يوم أمام أعينكم وأعين العالم بأسره.
إننا من خلال هذه الكلمات لا نكتفي بإدانة الاحتلال وحده، بل ندين أيضًا الضمير الإنساني العالمي، ذلك الضمير الذي آثر الصمت وفضّل الانشغال بمصالحه الضيقة على أن يتحرك لنصرة الحق والإنسانية. ننادي كل مسؤول، وكل صاحب قرار، أن يتحرك من موقعه، وأن يُحرك ما تبقى من مشاعره الإنسانية ليوقف هذه المجازر البشعة، التي لم تعد مأساة فلسطينية فحسب، بل عبئًا أخلاقيًا على العالم المتحضر كله. فما الذي يمكن أن يُقال عن حقوق الإنسان بعد هذه المشاهد؟ وهل حقًّا ما زال الغرب مع حقوق الإنسان، أم أن هذه الحقوق لم تُكتب إلا لتُستعمل سلاحًا حين تخدم مصالحه؟
لقد فشل الغرب أن يكون عادلًا ومنصفًا مع غيره. إن “حقوق الإنسان” التي يتشدّق بها ليل نهار لم تعد مبادئ كونية، بل شعارات انتقائية تُستخدم حيث تقتضي المصالح وتُطوى حيث يُراد لها أن تُطوى. والمأساة التي تعيشها غزة تكشف زيف الادعاءات وتفضح ازدواجية المعايير؛ فالذي يرفع لواء الحرية والديمقراطية يغضّ الطرف عن أكبر انتهاك لحق الإنسان الأول: الحق في الحياة.
إن غزة لم تعد تختبر فقط صمود أبنائها، بل تختبر كذلك صدقية تلك الشعارات التي ملأت الدنيا عن الكرامة والعدالة. والسؤال الذي يفرض نفسه: إذا كان الغرب ومعه القوى العظمى قد عجزوا ــ أو تعمّدوا ــ أن يصونوا أبسط حقوق الإنسان في غزة، فكيف يُصدَّق حديثهم عن الإنسانية في أي مكان آخر؟ وكيف يمكن لمن يزعم حماية الحقوق أن يسوي بين إنسان أسود في صحاري النيجر وآخر أبيض في باريس وواشنطن؟
لقد فشلت الحضارة الغربية في صياغة نموذج حقوقي شامل يتسع لكل البشر على اختلاف ألوانهم وعقائدهم ولغاتهم، وثبت بالدليل أن المنظومة الحقوقية الدولية ما هي إلا صناعة المنتصر بعد الحرب العالمية الثانية، أدوات تُسخَّر لاستمرار الهيمنة ونهب العالم، كما يؤكد المفكر الفرنسي روجيه غارودي في كتابه حفّارو القبور.
وما كان يُعد فضيلة في الأمس قد ينقلب إلى رذيلة في الغد، إن كان ذلك في مصلحة القوى الكبرى. فالمعايير عندهم لا تستند إلى قيم ثابتة، بل إلى مصالح متبدلة. وهنا يبرز جوهر القضية: إن لم يكن ثمة إله يضع قوانين ثابتة، فلا يمكن أن يكون هناك استقرار أو عدالة حقيقية في قوانين البشر. ذلك أن قوانين الله وحدها باقية لا يعتريها تبديل، كما يشير القرآن الكريم: «لا تبديل لكلمات الله».
إننا على قناعة راسخة بأن حقوق الإنسان لا يمكن أن تستند إلى مرجعية بشرية نسبية، تتبدل بتبدل الأهواء والمصالح، بل لا بد لها من مرجعية فوق البشر، يكون الحاكم فيها هو الله وحده. فالقوانين الإلهية لا تحابي أحدًا، ولا تنحاز إلا للعدل والإنصاف. ومن دون هذا الثبات، تصبح القيم لعبةً في يد الأقوياء، يبدلونها كما يشاؤون. وقد عبّر الفلاسفة عن هذه الحقيقة بقولهم: “إذا لم يكن الله موجودًا، فإن كل شيء مباح”. فالأخلاق لا ترسخ في وجدان المجتمعات إلا من مصدرها الأصيل، ومصدر الأخلاق الفاضلة هو الله، الذي قال في كتابه الكريم: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون».
أما واقع اليوم ففيه مفارقة كبرى: بينما تتغنى القوى الغربية بحقوق الإنسان وحرية الشعوب، تمارس على الأرض أبشع صور التمييز والازدواجية. فما يصلح قانونًا في عواصمها يُعتبر جريمة إذا طُبّق في غيرها، وما يُجرَّم هناك يُغضّ الطرف عنه هنا إذا كان يخدم مصالحها الاستراتيجية. إن القضية الفلسطينية عمومًا، وغزة خصوصًا، كشفت الوجه العاري لهذا النظام العالمي الذي يتحدث عن العدالة بلسان، ويمارس الاستبداد باليد الأخرى.
وفي هذا الباب، يحسن التذكير بما صرّح به المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مؤخرًا، إذ كشف أن بعض السياسيين الغربيين واجهوه بالقول حين أصدر مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو: إن هذه المحكمة أنشئت لمحاكمة القادة الأفارقة وبوتين. هذه الكلمات، على بساطتها، تحمل فضيحة أخلاقية وقانونية مدوّية، وتؤكد أن العدالة في المنظومة الدولية ليست سوى أداة انتقائية تُشهر في وجه الضعفاء والخصوم، وتُغمد حين يتعلق الأمر بحلفاء الغرب.
والتاريخ الإسلامي زاخر بالمشاهد المشرقة التي تؤكد أن العدل في شريعتنا ممارسة واقعية لا شعارًا أجوف. فقد رُوي أنه حين همَّ أحد أمراء بني أمية بظلم النصارى في الشام، قام الإمام الأوزاعي مدافعًا عنهم، وكتب إلى الخليفة يذكّره بحديث النبي ﷺ: «من ظلم معاهدًا، أو انتقصه، أو كلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسٍ منه، فأنا حجيجه يوم القيامة». فما كان من الخليفة إلا أن أوقف ذلك الظلم، إذ لا مجال لمخالفة أمرٍ جعل النبي ﷺ نفسه خصمًا لمن يعتدي على حقوق المعاهدين. وهكذا تجلّى المبدأ العظيم: أن قوانين الله فوق قوانين البشر، وأن العدل المستمد من الوحي ثابت لا يتغيّر، بخلاف القوانين الوضعية التي تتبدل تبعًا للمصالح والأهواء.
ولعل من أبشع الأمثلة على قرارات البشر حين تُبنى على الأهواء، ما وقع سنة 1209م في جنوب فرنسا ضد جماعة الكتار في منطقة لانغدوك، حين دعا البابا إنوسنت الثالث إلى ما عُرف بالحملة الألبيجنسية. وقد تحركت الجيوش تحت راية الدين، لا لنشر العدل، بل لإبادة خصومٍ عُدّوا هراطقة. وفي مدينة بيزييه ارتكبت واحدة من أفظع المجازر في التاريخ، حيث قُتل عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال بلا تمييز، حتى قيل إن القائد الصليبي أجاب حين سُئل كيف يفرّقون بين الكاثوليك والكتار: «اقتلوا الجميع، فالله يعرف أتباعه». هذه المأساة لم تكن سوى ثمرة مباشرة لقرار بشري جائر، أراق دماء الأبرياء، لتثبت أن القوانين البشرية، حين تنفصل عن مرجعية العدل الإلهي، تتحول إلى أداة للظلم والدمار.
إن غزة اليوم ليست مجرد جرح نازف في قلب الأمة، بل مرآة كاشفة لزيف حضارة تدّعي حقوق الإنسان فيما تترك الأطفال تحت الركام. إنها تختبر صمود أبنائها بقدر ما تختبر صدقية العالم. وبرغم هذا الليل الطويل، فإن دماء الشهداء لن تذهب هدرًا، وصوت المظلوم سيبقى يطرق أبواب السماء، والله تعالى قد وعد: «ولا تحسبن الله غافلًا عمّا يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار». ستظل غزة عنوانًا للصبر والكرامة، وصوتًا يذكّر الأمة بواجبها، حتى يطلع فجر الحرية مهما طال الليل.
IslamNews.Ru وكالة الأنباء
تسجيل الدخول ب: