المستشرق المسلم: والي أحمد صدور وجهاد الفكر في أرض الثلوج

العلامات:

0
15-07-2025

في عمله المؤسِّس "الاستشراق"، كشف المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد أن الدراسات الشرقية الغربية لم تكن مشروعًا معرفيًا محايدًا، بل أداةً لترسيخ الهيمنة الفكرية والسياسية على الشرق، خاصة في تعاملها مع الإسلام. وهذا النقد يجد صداه في كتابات مفكرين كبار مثل العالِم السوري عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في مؤلَّفه الهام "أجنحة المكر الثلاثة: الاستشراق، التبشير، الاستعمار" – كتابٌ كان حظره الاحتلال في فلسطين، حتى أن محاولة أمي إدخاله لي وأنا فتى في المرحلة الإعدادية سببت لها المشاكل لولا وجود مجلات "سوبرمان" و"الوطواط" التي كانت تحملها كذلك معها!

هذه المقدمة تمهيدٌ للحديث عن ظاهرة نادرة وقيمة: المستشرق المسلم الذي يدرس تراثه بمنهجية الاستشراق الأكاديمية، لكن من منظور الهُوية والإيمان. ومن أبرز هؤلاء الأخ الدكتور والي أحمد صدور (1939-2006) رحمه الله، أحد عمالقة الفكر الإسلامي في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي.

كرَّس الراحل حياته لدراسة التراث الإسلامي في روسيا وتفاعلاته مع شعوب وقوميات المنطقة، لا سيما في سيبيريا والقوقاز وآسيا الوسطى. بدأت معرفتي به كما سبق وأشرت بناءً على توصية من المرحوم الدكتور أحمد قاضي أختايف، واكتشفت حينها – رغم اعتقادي بأني جيد الاطلاع – أن معرفتي كانت سطحية للغاية أمام عمقه.

سمعت لأول مرة عن جمهورية خاقاسبا (ذات حكم ذاتي تقع في سيبيريا) وشعبها من الاخ والي أحمد صدور، حين حدثني عن زياراته لها، ولقاءاته بالمثقفين من نخبتها، وحواراته الطويلة معهم، وقناعة بعضهم بضرورة اعتناق الإسلام كشعب، لحفظ الشعب من الاندثار..

مقارنا بين حفط الإسلام للتتار كقوميّة وشعب وحفظ جميع تراثه كأمة من دين ولغة وعادات وتقاليد..

وأن الخاقاس كشعب سيذوب وتندثر لغته كما ذابت واندثرت شعوب سيبيريا قليلة العدد.. ان لم تبادر نخبته لاعتناق الإسلام وبحواراته ولقاءاته تمكن من غرس هذه الفكرة لدى عدد من مثقفيهم.

كان لقائي به نقلةً نوعية من الإلمام العام إلى الغوص في التفاصيل الحضارية الدقيقة.

رحلته الفريدة:

- وُلد رحمه الله في مدينة نوفوسيبيرسك (قلب سيبيريا العلمي) لأسرة تتارية، وحمل اسم "فلاديمير" قبل أن يستبدله بـ"والي أحمد" رفضًا للذوبان في الهوية الروسية.

- تخرَّج في معهد موسكو للغات الشرقية (المرتبط بجامعة موسكو)، المتخصِّص في إعداد النخب، وبرع في اللغة الإندونيسية.

- أُبعِد عن العمل الدبلوماسي في إندونيسيا (1966) لرفضه الانضمام للحزب الشيوعي، وهي إشارة مبكرة لاستقلاليته الفكرية.

- عمل بعد ذلك في مراكز الأبحاث المرموقة مثل معهد الدراسات الشرقية في أكاديمية العلوم السوفيتية، ومعهد الأدب العالمي.

موسوعة لغوية حية:

كان والي أحمد صدور شغوفا بتعلم اللغات واللهجات منذ صغره وكان يعتبر اللغات التركوية لغة واحدة، والباقي لهجات، وكان يقول لو اعتبرناها لغات فهو يتقن اذن حوالي 25 لغة، منها:

- الروسية (لغته الأم)

- التتارية

اللغة الأم الثانية) واللهجات المتفرعة عنها (الباشكيرية، التشوفاشية...)

- لغات آسيا الوسطى التركوية (الأوزبكية، الكازاخية...)

- الإندونيسية والماليزية

الإنجليزية والإيطالية

وكان يرى أن التقسيم الاصطناعي للغة التتار هو فعل سياسي مقصود إبان الحقبة السوفيتية، مؤكدًا على وحدتها الجذرية.

الإسلام حافظ على الهوية:

كانت أطروحته الأساسية التي يتحرك بها في كل الميادين هي أن الإسلام هو الضامن الوحيد لبقاء هوية الشعوب المسلمة في روسيا. وقد تجلَّى ذلك في كتابه المحوري "الأتراك، التتار، المسلمون"، حيث أبرز دور الإسلام في صياغة هوية شعوب آسيا الوسطى. وقادته ذلك إلى:

- المشاركة في تأسيس حزب النهضة الإسلامي في الاتحاد السوفيتي.

- العمل ضمن فريق المجلس الإسلامي في موسكو، والدفاع عن حقوق المسلمين.

- العمل في تحرير صحيفة "الفكر الحديث" التابعة للمجلس.

- إلقاء محاضرات وشارك في ندوات، ومحافل علمية متنوعة خاصة في سيبيريا محورها الإسلام هو الدرع الواقي للهوية من الذوبان في المحيط الروسي، مستشهدًا بصمود التتار بفضل إسلامهم.

عالم زاهد:

عاش الدكتور صدور – ككثير من علماء روسيا – حياةً بسيطةً منقطعةً للعلم، بسيطا في مأكله ، متواضعا في ملبسه، غارقًا في مكتبه بين أكوام الأوراق والكتب والمجلات، حتى وفاته في أواخر رمضان في مقر المجلس الإسلامي (18 أكتوبر 2006)، تاركًا إرثًا من الكتب والمقالات التي تجسِّد جهاد الفكر في أصعب الظروف.

أردت بهذه العجالة تسليط الضوء على رجل عظيم عاش بعيدا عن الأضواء، لا يعرفه كثير من الناس, ممن قدم وعمل وبذل في سبيل رفعة هذا الدين والدعوة اليه..

رحمه الله وأحسن إليه.

علي ابو عصام

تعليقات() النسخة المطبوعة

اضف تعليق