أثناء إعدادي لمقالٍ حول دور الطلاب العرب في إحياء الصحوة الإسلامية داخل الاتحاد السوفييتي، صادفتُ على شبكة الإنترنت نصًّا مقتبسًا من موسوعة الإسلام في روسيا الفدرالية، وقد استوقفني لما تضمّنه من إشاراتٍ دقيقة إلى تلك المرحلة الفريدة من التاريخ الدعوي في روسيا.
وخلال مطالعتي لهذه الموسوعة القيّمة (Ислам в Российской Федерации)، تبيّن لي أنها سلسلة من المعاجم الإقليمية تصدرها دار النشر “مَدِينة” بالتعاون مع عددٍ من المؤسسات الإسلامية والعلمية الروسية.
ولقد لفت انتباهي على وجه الخصوص القسم المخصَّص للإسلام والمسلمين في موسكو، الذي أعدَّه عددٌ من الباحثين تحت إشراف الدكتور ضامير محيي الدينوف، نائب رئيس الإدارة الدينية للمسلمين في روسيا.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الموسوعة تُعَدُّ عملًا علميًّا متميّزًا، زاخرًا بالمعلومات حول مختلف جوانب الحياة الإسلامية في البلاد، وقد حظيت بتقديرٍ واسعٍ في الأوساط الأكاديمية والدينية، قبل أن تُصدر المحكمة مؤخرًا قرارًا بحظر الجزء الخاص بمنطقة القوقاز، بدعوى أنّ الإشارات الواردة فيه إلى أحداث الحرب الشيشانية تُعَدّ “تمجيدًا للإرهاب”.
وأدناه النص الذي استوقفني وأثار اهتمامي، لما فيه من لمحاتٍ عميقة وجميلة عن أثر العمل الطلابي في واقع المسلمين في روسيا.
وجدتُ أنه نصٌّ جديرٌ بأن يُقرأ ويُتأمَّل.
نصٌّ مقتبس من الموسوعة
جاء في الموسوعة بندٌ تحت عنوان: «الطلاب المسلمون الأجانب في موسكو خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين»، يعرض فيه المؤلفون وصفًا دقيقًا لتلك المرحلة وما رافقها من أنشطة فكرية ودعوية بين أوساط الطلبة المسلمين الوافدين إلى الجامعات السوفييتية، ولا سيّما القادمين من الدول العربية والإسلامية. النص التالي ترجمة حرّة مع بعض التصرف اليسير للنص الروسي المقتبس من موسوعة «الإسلام في روسيا الفدرالية»، مع الحرص على نقل فكرته الأساسية وروحه كما وردت في الأصل:
"في ظلّ الضغوط الإلحادية الشديدة التي سادت الحياة العامة في الاتحاد السوفييتي، كان من الطبيعي أن تتكوّن بين صفوف الطلاب المسلمين الأجانب الذين يدرسون في جامعات موسكو خلال سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين تنظيماتٌ طلابيةٌ إسلاميةٌ غير رسمية. وقد تمثّل الهدف الأساسي لهذه التنظيمات في الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية الإسلامية بين الطلاب الأجانب المقيمين في البلاد.
ومن الناحية العِرْقية، كان أغلب أعضاء هذه الحركة من الطلاب العرب والباكستانيين والهنود، وبدأت أنشطتها الموثقة منذ أوائل السبعينيات، رغم احتمال وجود بوادر سابقة لها. وقد تميّزت هذه الحركة منذ بداياتها بتجاوزها الانقسامات القومية والإقليمية، وسعيها إلى إقامة روابط مباشرة مع المسلمين المحليين داخل الاتحاد السوفييتي.
حوالي عامي 1973–1974، شرع أعضاء هذه التنظيمات في عقد دروسٍ منتظمةٍ بمسجد موسكو بعد صلاة الظهر أيام الأحد. كانت الحلقات تضمّ ما بين خمسةٍ وعشرين إلى ثلاثين طالبًا، يتلون القرآن الكريم، ويمارسون التفسير، ويتدارسون الأحاديث النبوية حول قضايا معاصرة. كما شُجّع الكبار من ذوي الأسر على تعلم اللغة العربية والعلوم الإسلامية.
وفي تلك الفترة، برزت أسماء عددٍ من أوائل النشطاء المحليين، مثل مقصود أندرجانوف ومحمد صلاح الدينوف وغيرهما، الذين شارك بعضهم لاحقًا في تأسيس تنظيمٍ غير رسمي تحت اسم «الإسلام الصافي» (Саф ислам).
وفي مطلع السبعينيات، بدأ يتكوّن نظام إقليمي واسع يضمّ الطلاب المسلمين الأجانب في مختلف المدن الجامعية الكبرى: موسكو، ولينينغراد، وطشقند، ومدن أخرى في أوكرانيا وبيلاروسيا.
وقد عُرف أن طلاب طشقند على وجه الخصوص تفاعلوا مع نظام «الحجرات»، وهي منظومة التعليم الإسلامية السرّية في آسيا الوسطى (أوزبكستان وطاجيكستان). ومن خلالهم تسرّبت إلى الاتحاد السوفييتي الكتب والمجلات الإسلامية المعاصرة، كما أسهموا في تعريف العالم الخارجي بعددٍ من العلماء والمفكرين المسلمين السوفييت.
تنوّعت المرجعيات الفكرية للحركة تنوّعًا كبيرًا، إذ كان بين صفوفها ممثّلون عن مختلف التيارات والمدارس الإسلامية. ومن الناحية التنظيمية، كانت الأقوى حضورًا هي:
• جماعة الإخوان المسلمين
• الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية
• الحركة الإسلامية السودانية
• عدد من الطرق الصوفية، وخصوصًا التركية والباكستانية والهندية
• جماعة التبليغ
وتُذكَر في هذا السياق بعض الشخصيات البارزة في تلك المرحلة:
• محمد إقبال – طالب باكستاني تولّى قيادة منظمة طلاب موسكو في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. وُلد في أسرةٍ شيوعية، وكان في بداياته متأثرًا بالأفكار الماركسية، لكنه تخلّى عنها بعد اندلاع الحرب الأفغانية.
• طلال عثمان – طالب سوداني وخريج أكاديمية تيميريازيف الزراعية، كان من النشطاء البارزين في الحركة الطلابية، وقضى سنواتٍ عديدة في الدعوة إلى الإسلام داخل الاتحاد السوفييتي، مؤثرًا بأسلوبه الهادئ في تكوين جيلٍ من الدعاة الذين لعبوا أدوارًا مهمة في الحياة الإسلامية الروسية اللاحقة.
ومن رحم هذه الحركة الطلابية تخرّج لاحقًا عددٌ من القادة والمؤسسين للمنظمات الإسلامية والعربية في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. كما تعاونت مجموعة «الإسلام الصافي» (Саф ислам)، التي استلهمت تقاليدها من الإرث التتاري ما قبل الثورة البلشفية، مع تلك الشبكات الطلابية في مراحل متعددة.
ومع انهيار الفكر الشيوعي وتراجع القيود المفروضة على الممارسات الدينية في روسيا، زالت الحاجة إلى وجود هيكل تنظيمي سرّي أو موحّد، فانحسرت تلك الحركة تدريجيًا حتى توقّفت عن الوجود." نهاية النص المقتبس.
ذلك المشهد الذي ترسمه الموسوعة لا يُقرأ بوصفه مجرّد توثيقٍ أكاديميٍّ لمرحلةٍ منسيّة، بل هو نافذة تُطلّ على بذور نهضةٍ إسلاميةٍ هادئة تشكّلت في قلب موسكو، رغم ضغوط الإلحاد الرسمي، وبجهود طلبةٍ غرباء من ديارٍ بعيدة، حملوا في صدورهم معاني الانتماء والإخلاص لهذا الدين.
كانت تلك اللقاءات الصغيرة في مسجد موسكو بعد صلاة الظهر أكثر من دروسٍ دينية؛ كانت ومضات وعيٍ جديدة تُعيد تعريف معنى الانتماء، وتربط حاضر الأمة بماضيها الممتدّ عبر الزمان والمكان.
لقد أسهم أولئك الطلاب العرب، ومعهم إخوتهم من باكستان والهند وبنغلاديش، في كسر العزلة الروحية التي فُرضت على المسلمين في الاتحاد السوفييتي، وفتحوا أمامهم آفاقًا أوسع نحو العالم الإسلامي.
ومن رحم تلك الجهود البسيطة وُلدت لاحقًا شخصياتٌ ومؤسساتٌ شكلت نواة الحراك الإسلامي في روسيا الحديثة.
الأخوان الكريمان اللذان ورد اسماهما في النص المقتبس – محمد إقبال وطلال عثمان – هما من خيرة الإخوة وأنبلهم خُلقًا وسلوكًا.
وقد انتقل الأخ طلال عثمان قبل فترةٍ إلى رحمة الله تعالى، وبقي ذكره الطيّب شاهدًا على إخلاصه وصدق عطائه.
وهناك عشراتٌ غيرهما من الإخوة الأفاضل لم تذكرهم الموسوعة ولم تُسجّل أسماءهم الصفحات، لكنّ أثرهم باقٍ في القلوب، وعملهم ماثلٌ في حياة الناس.
وهذا بالضبط ما أردتُ أن أتناوله في مقالي الذي كنت أعمل على إعداده — أن أُعيد إلى الذاكرة أسماء أولئك الجنود المجهولين الذين لم يعرفهم الناس، ولكن عرفهم الله، وتركوا بصمتهم المضيئة في مختلف أرجاء البلاد.
إنّ استحضار هذا المشهد اليوم ليس استدعاءً للماضي، بقدر ما هو تذكيرٌ بقوة الفكرة حين تُحمَل بإخلاصٍ وصفاء نية.
ففي ظلال تلك الصحوة الصامتة، انبثق صوت الإيمان من جديد — على أيدي طلبةٍ حفظوا عهد الله، وقاموا بواجب إخوتهم، فكان لهم أجرُ السبق وبركةُ الصدقة الجارية؛ جنودٌ في الخفاء، حسبُهم أنّ الله حسيبهم، وهو الذي يجزل العطاء بلا حساب.
مشاهدات في بلاد التتار – 3 المقال الأول: الأمناء على التقاليد في قلب الصقيع – تتار سيبيريا
خواطر من ومضات الذاكرة ولي الله يعقوبوف
"ميشار" نيجني نوفغورود: مآذن من رحم المعاناة
المستشرق المسلم: والي أحمد صدور وجهاد الفكر في أرض الثلوج
حديث الذكريات عن الشيخ إلياس حاجي الأقوشي
كيف حفظ "المجلس" هوية التتار من الذوبان؟
IslamNews.Ru وكالة الأنباء
تسجيل الدخول ب: