راودني حلم زيارة أرض الأندلس، بلاد الأجداد، منذ نعومة أظفاري. كان حلماً يسكنني منذ عرفت أن لي جذورًا في تلك الديار، حضارةً وتاريخًا وهوية. إنه حلمٌ يسكن الوجدان، ويأبى أن يغادر القلب. لم يكن حلماً كسائر الأحلام، بل شعوراً بالانتماء لحضارة، وتاريخ، ووطن مضى عليه الزمن، لكنه لم يغب عن الذاكرة.
وأخيراً، شاءت الأقدار أن يتحقق الحلم، فحزمتُ أمتعتي وانطلقتُ ماضياً في رحلة عبر الزمان والمكان، رحلة تختلط فيها مشاعر الفخر على ما مضى مليئة بالحسرة على ما ضاع.
ملقة.. لؤلؤة البحر والتاريخ
بين أحضان الجبال وساحل البحر المتوسط، تتربع مدينة ملقة كدُرّة تتلألأ على تاج الأندلس. صاغ المسلمون مجدها بيدٍ ساحرة، فجعلوا منها جوهرةً في قلب الزمان. دخلها المسلمون عام 92هـ (سنة ٧١١ للميلاد)بقيادة القائد الفذ طارق بن زياد، لتُفتح صفحة جديدة من أزهى فصولها، ولتشهد عصورًا متتابعة من المجد والازدهار.
لم تكن ملقة مجرد مدينة محصنة، بل تحوّلت إلى عاصمة لمنطقتها في عهد عبد الرحمن الناصر، ثم بلغت ذروة مجدها في عهد الخلافة الأموية في قرطبة، فأصبحت مركزًا تجاريًا وثقافيًا من الطراز الرفيع، ينبض بالحياة عبر مينائها البحري الكبير.
رغم مرور القرون وتبدّل الملامح، لا تزال آثار المسلمين تتنفس في أزقة ملقة، وشواهد حضارتهم قائمة، تقاوم عبث الزمن، وتروي حكاية مدينة سقطت عام 1487م، لكنها لم تمت. ويبرز ذلك بجلاء في قلعة القصبة الشامخة، إحدى أروع القلاع الإسلامية المحفوظة في إسبانيا. شُيّدت على تلة تشرف على البحر والمدينة، وتُجسّد بممراتها وحدائقها وقنواتها وأبراجها مزيجًا أخّاذًا من القوة والجمال.
أما "جبرالفارو" — القلعة الأعلى — والتي يُرجّح أن اسمها الأصلي كان "جبل الفاروق"، فتتصل بالقصبة عبر ممر عالٍ ومحصّن، يكاد يسلب أنفاسك وأنت تصعد درجاته. بناها الخليفة عبد الرحمن الثالث لتحصين المدينة، ويقصدها السيّاح اليوم ليروا من أعلاها ملقة كما رآها قادتها من قبل.
لكن لكل مجد نهاية، فقد سقطت ملقة في يد الملكين الكاثوليك، فرناندو وإيزابيلا، سنة 1487م، بعد حصار دموي، لتُطوى صفحة من أبهى صفحاتها. ورغم السقوط، بقيت آثار المسلمين تنبض بالحياة، تروي لزائرها حكاية مجدٍ لا يُمحى، ومدينةٍ غابت عن أيدي أهلها، لكن لم يغِب نورها.
غرناطة.. ذاكرة الحضارة وأرواح الأجداد
ليست غرناطة مجرد مدينة، وعلاقتي بها ليست علاقة سائح عابر، بل إنها وجدانٌ متجذر يسكنني منذ طفولتي. علمت من والدي وأخي الأكبر عن أصولنا الأندلسية وأننا ننتمي إليها، وأن جدنا كان من ساكنيها وعاملي قصرها قبل أن تُجبره محاكم التفتيش على الهجرة إلى بلاد المغرب كما فعل كثير من المسلمين بعد سقوطها. تركت جميع تلك العائلات الأندلسية بصمة في المدن التي سكنوها. ومن آثارهم في مدينتنا مسجدٌ لا يزال قائماً، بُني في زمن هجرتهم، ليظل شاهداً على إخلاصهم لدينهم الذي هجّروا من أجله.
منذ الصغر، كان يراودني حلم أن أزور غرناطة، مدينة الأجداد. وعندما وصلت إليها، وجدتها تقف كجوهرة بين الجبال، تسكنها أرواح من رحلوا. تجولت في أزقتها، شوارعها القديمة ومساجدها، وشعرت أن كل حجر فيها يحكي قصة.
كل زاوية في تلك المدينة تحكي لك قصة، وكل حجر يهمس بتاريخٍ لا يموت. هكذا كان شعوري، وهكذا تزاحمت عليّ المشاعر والأفكار. مشيت بين شوارعها الضيقة، وبيوتها العتيقة، ومساجدها التي غُيّب صوت الأذان فيها، لتتحول إلى كنائسٍ جامدة لا تنبض بالحياة. كنت أردد لنفسي: "هنا صلّى أجدادي، وهنا تعلّموا، وهناك لعب أطفالهم وضحكوا".
صليتُ في بيت استأجرته، ورفعت يدي أترحم على ساكنيه، شعرت بأنهم كانوا من أبناء الإسلام. وعلى بُعد أمتار، كانت منارةٌ صامتة تلوّح بالشكوى، بعدما حُوِّل مسجدها إلى كنيسة. كنت أسمع في داخلي صوت المؤذن يصدح من أعالي المئذنة، وأسمع أنين الحجارة يشكو غياب المصلّين والذاكرين.
قصر الحمراء.. قلب غرناطة النابض
وعند بوابة قصر الحمراء، خفق قلبي بشدة وتهاوت الكلمات أمام عظمته. قصرٌ لا يزال يتحدى الزمن بجماله وزخرفته، وساحة الأسود الاثني عشر تهمس بحكايات العظمة. كل جدار فيه تحفة، كل نقشة قصيدة، كل نافورة همسة من الماضي. وقفت الشمس عليه خاشعة عند الغروب، وكأنها تستأذن الدخول إلى حضارة لم تنطفئ.
هنا، لم يكن الماضي أطلالاً، بل نداء للمستقبل. كانت غرناطة منارة للعقل والعلم والجمال، حين كانت أوروبا تغوص في الجهل والظلمات. وما تزال كذلك في شوارعها، في نقوشها، في رائحة الأندلس التي تعبق في هوائها.
قرطبة.. شام أوروبا ومدينة الأنوار والعلوم
قرطبة ليست مدينة من حجر، بل قصيدةٌ من حضارة، كُتبت بمِداد الذهب على صفحات التاريخ. كان صقر قريش عاشقًا للشام، فتجلّى عشقه في قرطبة: في نخلها المزروع بعناية الشرق، وفي مبانيها التي تستحضر دمشق. هنا، بين أحضان نهر الوادي الكبير، تتربع قرطبة كأنها حلم معماري نُحت بمعاني الحنين. إنها تلك المدينة التي تغمض عيناك فيها فترى مجداً غابراً، وتفتحهما فترى جمالاً حاضراً ممزوجاً بعبق التاريخ وأمجاده.
حين تتجوّل في ساحة مسجدها وبين أعمدته الشامخة، تشعر كأنك تمشي في بلاط المعرفة، وكأن الأرواح العظيمة ما زالت تهمس في جنبات المكان. هناك، تتخيل ابن حزم منهمكًا في درسه، والإمام القرطبي يفسر آيات كتاب الله، وابن عبد البر يحدث الناس عن السيرة العطرة، وذاك ابن رشد الفقيه الفيلسوف القاضي، حاضرٌ بعقله ونقاشه، بين ضوء القناديل وظلال الأعمدة. تمضي بخطاك نحو المحراب، فيخيل إليك المنصور ابن أبي عامر واقفًا على منبره، يخطب في الناس داعيًا إلى جهاد الفنرجة… كل أولئك يعودون للحياة، ما دام في قلبك حنين، وفي ذاكرتك شغف بذلك الزمان.
أينما تحركت بين أزقتها وشوارعها الضيقة إلا وتستشعر حركة الناس وطلبة العلم وروح الثقافة والأصالة والازدهار، بل تستشعر عظمة أمة مرت من هناك وتركت بصماتها على كل حجر فيها.
في حي "جوديريا"، حي تجمع اليهود في ذلك الزمان، حيث تتعانق النوافذ المزدانة بالزهور، يخيل إليك أن الجدران تهمس بحكاية تعايشٍ بُني على أسس العدل والإيمان بالاختلاف. قرطبة هنا ليست أطلالًا ساكنة، بل قصيدة حيّة منقوشة على جدران الزمن.
في هذا الحي، لم يكن الدين حاجزًا يفصل بين الأرواح، بل كان جسرًا للتلاقي بين المسلمين والمسيحيين واليهود، حيث عاشوا قرونًا يتبادلون العلم والحكمة. أحجار الأزقة لا تزال تروي قصة تسامحٍ كانت يومًا ما لغة الساكنين.
لكن… كيف لا تخطر ببالك غزة، وأنت تتجول بين جدران تلك البيوت القديمة، لتزور كنيسًا وحيدًا نجا من بين عشرات طواها الهدم والنسيان؟!
نعم في قلب قرطبة، حيث عبق التعايش، انساب إلى ذهني وجع غزة، وما تتعرض له من تنكيل وتشريد وانتهاك لكل معنى إنساني. كم هو مؤلم أن ترى كيف غابت تلك القيم التي جمعت قلوبًا مختلفة في الماضي، وحل مكانها اليوم قانون الغاب، حيث تُدهس الكرامة، وتُمحى الذاكرة، ويُحاصر الأمل خلف الجدران.
إشبيلية.. الذاكرة التي تأبى النسيان
آخر محطات الرحلة كانت إشبيلية، جوهرة الأندلس، وعاصمة بني عباد. تقف على ضفاف الوادي الكبير كعروس تتوشح بالتاريخ، وتزخر كل شبرٍ فيها بعراقةٍ ممتدة من أحيائها الضيقة إلى ساحاتها الرحبة. على ضفاف نهر الوادي الكبير، المنساب بين سهول الأندلس الذهبية، نشأت المدينة التي احتضنت حضاراتٍ متعاقبة، لكن جدرانها اليوم لاتزال شاهدة على صراع الذاكرة والنسيان، محافظة في أعماقها على الروح الإسلامية حيّة نابضة.
حكمها الرومان زمنًا، ثم جاء المسلمون فشيدوا فيها واحدة من أعظم حضاراتهم، فكان مسجدها الكبير تحفة خالدة من روائع الهندسة الإسلامية، وجامعة للحكمة والفن والتأمل. تروي جدران قصرها المذهل — القلعة الحمراء — وجبروت كاتدرائيتها المشيّدة على أنقاض المسجد الكبير، قصة الهجمة الشرسة على الحضارة الإسلامية، وتعاقب الأزمان، وعبقرية الإنسان حين يُبدع… وحين يهدم.
مسجد اشبيلية الكبير
كان مسجد إشبيلية أكثر من مكان للعبادة؛ كان مدرسة، بل جامعةً تنهل منها الملوك قبل العلماء، وتُعلِّم أن الفن والجمال هما أصدق دعائم الخلود. فقد فهم أولئك البنّاؤون الأندلسيون أن الإرث العظيم لا يُقاس بما تملكه من سلاح، بل بما تتركه من أثر. وهكذا، صاغوا مدينةً بقيت، وستظل، قلبًا نابضًا بالحياة في جسد التاريخ، لا تخبو أنفاسه مهما امتد الزمان.
تزاحمت في إشبيلية حضارتان، لكن الهجمة الشرسة على التراث الإسلامي كانت صارخة للعيان، تحمل في طياتها رغبة جامحة في محو الذاكرة وتغيير الهوية. زاحمت جدران الكاتدرائية مئذنة المسجد الكبير، فبدت شاهدة على عظمة العمارة الإسلامية، وتحمل همسات الأذان الذي كان يملأ الأفق نداءً للصلاة والفلاح.
كل زاوية من المدينة تنطق بالتغيرات الهندسية التي طالت المساجد والمدارس والمآذن. كثيرة هي المساجد التي هُدّمت، بقيت مناراتها شامخة، لكن جدرانها أُسقطت لتُبنى مكانها كنائس وبِيَع. إشبيلية هي المدينة التي تشعر فيها أكثر من غيرها بشراسة الهجمة على الموروث الإسلامي؛ أينما توجهت رأيت بقايا مسجد أو مدرسة أو وقف، نالت منها يد الطغيان، محاولةً اقتلاع جذورها من الذاكرة.
ومع ذلك، وسط هذه المعركة غير المتكافئة، بقيت مئذنة المسجد الكبير "الخيرالدا" شامخة بكل فخر، تروي بصمت قصة الصمود. رغم التعديلات، لم تُمحَ هويتها، ولا انطفأ نورها. تطل من بين جدران الكاتدرائية كأنها تقول: "أنا هنا، كنتُ مئذنة، وكان الأذان يُرفع من عليائي". كانت في زمانها أعلى بناء في أوروبا، واليوم لا تزال تلفت الأنظار، تعلوها الزخارف الإسلامية والأقواس الأندلسية، تهتف بالتوحيد وسط رموز الهيمنة الدينية الجديدة.
كل زاوية في إشبيلية تروي قصة: من قصرها المذهل، إلى أحياءها القديمة المزينة بالأزهار، إلى همسات النوافير وصدى الخيول. مدينةٌ كانت مركزاً للفلاسفة، وعشاً للفنانين، لا تزال تنبض بروح أندلسية لم تُمحَ. في أحيائها القديمة، حيث الزهور تزين النوافذ، كنت أسمع همسات التاريخ، لتقول أنا لست مجرد مدينة، بل ذاكرة حيّة، ولوحة فنية رسمتها أنامل التاريخ، تحفظ في أضلاعها تراث الأندلس، وتهمس في أذن كل زائر: هنا كان الجمال، وهنا كان التعايش، وهنا لا تزال الروح حاضرة، مهما حاول النسيان أن يُسدل ستاره.
خاتمة
لم تكن رحلتي إلى الأندلس مجرد تنقل بين مدن، ولم تكن مجرد عبورٍ في الجغرافيا، بل كانت غوصًا في الذات بل عبورٌ إلى قلب التاريخ. رأيتُ فيها حضارةً لا تزال حيّة في تفاصيل المدن، في صدى الآذان الغائب، وفي زهور الشرفات، وفي حجارة المساجد التي تنتظر المصلّين. هناك في تلك الديار عرفت من نحن، وماذا كنا، وماذا يمكن أن نكون إذا نهضنا من جديد.
إنها الأندلس… ذاكرةٌ لا تموت، ووعدٌ بأن النور، وإن خبا، فسيظل يلوّح بعودته يوماً ما... ويقيني أنه سيعود بإذن الله، وما ذلك على الله بعزيز.
IslamNews.Ru وكالة الأنباء
تسجيل الدخول ب: