في أقاصي سيبيريا، حيث يلفُّ الصقيعُ الأفقَ وتختبئ الشمس خلف أستار الغيوم، وُلد رجلٌ جمع بين دفء الإسلام في قلبه، وعمق البحث الأكاديمي في عقله: الدكتور والي أحمد صدور.
بين الاستشراق والإيمان
كان والي أحمد واحدًا من أولئك الذين سعوا إلى فهم الإسلام من الداخل، فجمع بين صفاء الإيمان وصرامة المنهج العلمي، وبين حرارة الدعوة وهدوء البحث، مستثيرا بشخصه السؤال القديم الذي أثاره إدوارد سعيد في عمله المؤسِّس «الاستشراق»: هل كان الغرب يدرس الشرق ليعرفه، أم ليمتلك عليه فكره؟ لقد كشف سعيد أن الدراسات الشرقية لم تكن مشروعًا معرفيًا محايدًا، بل أداةً لترسيخ الهيمنة الفكرية والسياسية على الشرق، ولا سيما في تعاملها مع الإسلام، وهي الرؤية نفسها التي عمّقها العالِم السوري عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني في كتابه "أجنحة المكر الثلاثة"، مؤكّدًا أن الاستشراق الغربي لم يكن إلا وجهًا من وجوه الغزو والاستتباع الثقافي.
المدرسة الروسية: استعراب لا استشراق
أما المدرسة الروسية فقد أضفت على الاستشراق وجهًا آخر أقل استعلاءً وأكثر إنصافًا في دراسة المخطوطات العربية، وقدمت إسهاماتٍ رائدة في إبراز محتوياتها العلمية والأدبية، مؤكّدة أن العلماء العرب والمسلمين لم يكونوا مجرد نقلةٍ للمعرفة، بل مبدعين ساهموا في تشكيل الفكر الإنساني. ولهذا كان شيخ المستشرقين الروس إغناطيوس كراتشكوفسكي يرفض مصطلح «الاستشراق الروسي» ويفضّل «الاستعراب»، إدراكًا منه لخصوصية المدرسة الروسية التي أنصفت التاريخين العربي والإسلامي، وتأثر بها كبار الأدباء الروس الذين كتبوا عن الإسلام ورسوله الكريم ﷺ شعرًا ونثرًا.
ومن بين ثنايا هذه المدرسة المتميّزة يبرز وجهٌ فريد، جمع بين عمق المنهج الأكاديمي ونور الإيمان، هو الدكتور والي أحمد صدور (1939–2006)، الذي قدّم تجربةً فريدة يمكن وسمها بـ«الاستعراب المؤمن»؛ إذ قرأ تراث أمته بعين الباحث الروسي وقلب المسلم الواعي بهويته.
بداية التعارف والعمل المشترك
في مطلع التسعينات كنت قد بدأت العمل مع الدكتور أحمد توتنجي، وقمنا بتسجيل ممثلية الندوة العالمية للشباب الإسلامي في روسيا، ومكتب مؤسسة سار في مختلف مناطق الاتحاد السوفييتي وروسيا الفيدرالية، ومع اتساع العمل كنت بحاجة إلى أخٍ خبيرٍ يتابع أوضاع المسلمين في الجمهوريات السوفيتية، ويعد تقارير دقيقة عن أحوالهم وسبل دعمهم، فرشّح لي الدكتور أحمد قاضي أختايف – أمير حزب النهضة الإسلامي في الاتحاد السوفييتي آنذاك – الدكتور والي أحمد صدور، قائلًا إنه باحث موسوعي وخبير في الإثنولوجيا عمل في أكاديمية العلوم السوفيتية، وسبق أن خدم في البعثة الدبلوماسية في إندونيسيا، حيث أتقن لغة "البهاسا" خلال دراسته الجامعية.
أعددنا حينها مواد وملفات وصورًا عن مختلف مواقع العمل، من جمهوريات آسيا الوسطى وحتى بيلاروسيا في أقصى الغرب، لكن تلك الأرشيفات ضاعت للأسف، إذ كانت تلك الحقبة ما تزال بعيدة عن العصر الرقمي، ولم نكن نملك وسائل لحفظ الوثائق إلكترونيًا، فكنا نطبعها على الآلة الكاتبة ونرسلها بالفاكس ثم نحتفظ بنسخها الورقية في مجلدات مبوبة وفق المنطقة، بأسلوب عمل يعكس روح ذلك الزمن.
وهكذا بدأت معرفتي بالأستاذ والي أحمد صدور رحمه الله، الذي سرعان ما أصبح أحد رموز الفكر الإسلامي في روسيا الحديثة.
المستشرق الداعية
كرَّس والي أحمد صدور حياته لدراسة التراث الإسلامي في روسيا وتفاعلاته مع شعوب المنطقة وقومياتها، لا سيما في سيبيريا والقوقاز وآسيا الوسطى.
وقد بدأت معرفتي به – كما ذكرت – بناءً على توصية من المرحوم الدكتور أحمد قاضي أختايف، واكتشفت بعد لقائنا الأول أن معارفي كانت جدّ سطحية إزاء غزارة علمه، رغم ظني قبل ذلك أني جيد الاطلاع.
سمعت منه لأول مرة عن دراساته لجمهورية خاقاسبا ذات الحكم الذاتي (تقع في سيبيريا) وشعبها، وحدثني عن زياراته لها، ولقاءاته بالمثقفين من نخبتها، وحواراته الطويلة معهم، ومقارنة بعض مثقفيهم بين قوميتهم الآخذة بالذوبان وسط المحيط الثقافي الأكبر والتتار في روسيا، وتوصل بعضهم إلى قناعةٍ بأن الإسلام حفظ التتار كما حفظ التتار الإسلام، وما رأى آخرون من أن السبيل الوحيد لصون القومية الخاقاسية من الذوبان هو اعتناق الإسلام باعتباره حاضن الهوية وحافظ الذاكرة، وقد كتب عن ذلك مقارنًا بين حفظ الإسلام للتتار كقوميةٍ وشعب، وحفظ تراثهم كأمةٍ في دينها ولغتها وعاداتها وتقاليدها.. وحذر كثيرا من أن الخاقاس كشعب سيذوب وقد تندثر لغته كما ذابت واندثرت لغات شعوب سيبيرية أخرى قليلة العدد.. ودعا النخب بحواراته ولقاءاته إلى اعتناق الإسلام للمحافظة على الذات، مستشهدا بحاضر العالم الإسلامي الذي حفظ القوميات العرقية، فيما تلاشت قوميات عرقية قديمة في أوروبا الحديثة.
لقد كان لقائي به نقلةً نوعية من الإلمام العام بمسألة القوميات في روسيا الحديثة إلى الغوص في أدق التفاصيل الحضارية، وكنت أرى فيه صورة الباحث المؤمن الذي يكتب بعقله وقلبه معًا.
رحلته الفريدة
وُلد رحمه الله في مدينة نوفوسيبيرسك (قلب سيبيريا العلمي) لأسرة تتارية، وحمل اسم «فلاديمير» قبل أن يبدله إلى "والي أحمد" حفاظًا على الهوية الإسلامية. تخرَّج في معهد موسكو للغات الشرقية التابع لجامعة موسكو، المتخصِّص في إعداد النخب في العهد السوفييتي، وبرع في اللغة الإندونيسية، لذا تم إرساله للعمل ضمن طاقم السفارة في جاكرتا، لكنه لم يلبث أن تم إبعاده عن العمل الدبلوماسي في إندونيسيا (1966) لرفضه القاطع للانضمام إلى الحزب الشيوعي في دلالة مبكرة على استقلاليته الفكرية، ثم عمل بعد عودته من جاكرتا في مراكز الأبحاث المرموقة بموسكو، كمعهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية، ومعهد الأدب العالمي.
موسوعة لغوية حية
كان والي أحمد صدور موسوعة لغوية حية منذ صغره؛ فقد كان شغوفًا بتعلّم اللغات، ويرى أن اللغات التركوية في جوهرها لغة واحدة، وما سواها لهجات متقاربة. وكان يقول مازحًا: “إن اعتبرناها لغاتٍ مستقلة، فأنا أتقن إذًا خمسًا وعشرين لغة!”. وقد رأى أن تقسيم اللهجات التركوية إلى لغات مستقلة كان قرارًا سياسيًا فرضته الحقبة السوفيتية لتفتيت وحدة الشعوب المسلمة الثقافية.
الإسلام حافظ للهوية
كانت أطروحته الأساسية التي يتحرك بها في كل الميادين ترى أن الإسلام هو الضامن الوحيد لبقاء هوية الشعوب المسلمة في روسيا، وقد تجلَّى ذلك في كتابه الموسوعي "الأتراك، التتار، المسلمون"، حيث أبرز دور الإسلام في صياغة هوية شعوب آسيا الوسطى.
من حزب النهضة إلى المجلس الإسلامي
بعد تراخي قبضة الحزب الشيوعي السوفييتي وبداية إطلاق الحريات شارك الدكتور والي أحمد صدور مع إخوانه في تأسيس حزب النهضة الإسلامي في الاتحاد السوفيتي، أول كيان سياسي تشكل لتمثيل المسلمين من جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز، وقد ترأّس المؤتمر التأسيسي لفرع الحزب في منطقة حوض الفولغا، الذي عُقد في مدينة ساراتوف عام 1991، ثم أصبح بعد ذلك الناطق الإعلامي باسم الحزب في موسكو.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفرّق الحزب واصل الدكتور صدور عمله الدعوي والفكري، وكنّا قد عملنا معًا – كما أسلفت – في ممثلية الندوة العالمية للشباب الإسلامي في موسكو، ثم انتقل ليواصل جهده ضمن فريق "المنتدى الإسلامي" الذي أسسه الصديق محمد صلاح الدينوف، والذي تحوّل لاحقًا إلى المجلس الإسلامي في موسكو، حيث واصل أداء رسالته في الدفاع عن حقوق المسلمين وترسيخ حضورهم الثقافي، ومن خلال تجربتي معه أدركت أن الدعوة في روسيا لم تكن مجرد ساحةٍ للوعظ والخطابة، بل فضاءً للفكر والعمل المتواصل والمثابرة.
كما شارك في تأسيس وتحرير صحيفة "الفكر الحديث" التابعة للمجلس، وكانت منبرًا فكريًا إسلاميًا متميزًا، وصوتًا واعيًا ملأ فراغ الساحة الإعلامية الإسلامية في روسيا الحديثة، وكان له برنامج علمي حافل بالمحاضرات والمشاركات الأكاديمية، ولا سيما في سيبيريا، فكان خير ممثلٍ للمثقف المسلم المتمسك بهويته عن وعيٍ وعلم، وحيثما حلّ، كان يُجسّد رسالته الدائمة: أن الإسلام هو الدرع الواقي للهوية من الذوبان في المحيط الثقافي والمادي الطاغي، ضاربًا المثل بصمود التتار الذين حافظوا على وجودهم بفضل إسلامهم رغم شتى صنوف البلاء.
المخيم الإسلامي الأول في كازاخستان
كان الوضع الإسلامي في آسيا الوسطى شديد التفاوت، فمن ناحية كان الإسلام قويا في كل من طاجيكستان، وأوزبكستان بفضل علماء كرام حرصوا على تعليم الشباب سرا بنظام الحجرات، إلا أن الوضع في قيرغيزيا وكازاخستان لم يكن بتلك القوة، ففكرنا بطريقة مناسبة للوصول إلى الشباب، وكنت وقتها مشرفا على مكتب الندوة العالمية للشباب الإسلامي في الاتحاد السوفييتي، فاستقر الرأي على تنظيم مخيم شبابي ننتقي إليه بعض الطلبة ليدرسوا خلاله أسس الإسلام، ثم يكونوا سفراء لنشرها في مناطقهم بعد ذلك، وانتدبنا إلى المخيم الأستاذ الداعية والي أحمد صدور، مع إخوة آخرين، وكان لإتقانه المميز للغات التركوية دور كبير في نفوس الشباب.
عالم زاهد
عاش الدكتور صدور – ككثير من علماء روسيا – حياة البساطة والعلم، كأنما اختار من الدنيا زاوية ضوءٍ وكتابًا مفتوحًا، فكان مقتصدا في مأكله، متواضعًا في ملبسه، غارقًا في مكتبه بين أكوام الأوراق والكتب والمجلات، حتى كانت وفاته في أواخر رمضان في مقر المجلس الإسلامي الروسي (18 أكتوبر 2006)، تاركًا إرثًا واسعا من الصفحات والمقالات التي تجسِّد إشراقة الفكر في أحلك الظروف.
وما هذه السطور إلا محاولة لاستذكار رجلٍ نادر، جمع بين العالم والمصلح، وبين الباحث الأكاديمي والداعية الميداني، عاش متواضعًا بعيدًا عن الأضواء، لكنه ترك أثرًا عميقًا في الوعي الإسلامي الروسي، وكان في صدر الرعيل الأول من السابقين الذين أوقدوا للإسلام شعلة في ساحات الفكر والدعوة، وبذلوا كل نفيس لإحياء هذا الدين في حقبة ما بعد الشيوعية. رحل والي أحمد صدور في صمت الثلوج، لكنه ترك دفئًا في ذاكرة من عرفوه، وإرثًا فكريًا يذكّر بأن رجلا واحدا من أقاصي سيبيريا خرج يحمل مشعل الإسلام والعلم، فظلّ صوته الهادئ صدىً باقيًا في سهوب الشمال.
باحث في العلاقات الإسلامية في الفضاء السوفييتي السابق.
النص مستلهم من ذكريات الكاتب وعلاقته الشخصية بالدكتور والي أحمد صدور (1939–2006)، أحد روّاد الفكر الإسلامي في روسيا الحديثة.
IslamNews.Ru وكالة الأنباء
تسجيل الدخول ب: