زبيد الله روزيق: شهيد الدعوة وصوت الصمود في طاجيكستان

العلامات:

0
12-09-2025

مع أول خيوط فجر الثاني من ربيع الآخرة 1447هجرية الموافق للرابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2025، أُسدل ستار الحكاية على واحد من أعلام الدعوة الإسلامية في طاجيكستان. أسلم الداعية الجليل الشيخ زبيد الله رازق، المعروف باسم زبيد الله روزيق (Zubaydullo Roziq)، الروح لبارئها عن ثلاثةٍ وثمانين عامًا، داخل زنزانة ضيقة في سجن مدينة فاختات.

رحل الشيخ مثقلاً بقيود الظلم، غير أن روحه الحرة أبت الانكسار، وعزيمته الصلبة استعصتعلى القهر، فخلّد في الناس سيرة ناصعة تفيض بالعلم والصبر والكرامة.

لم يكن مجرد شيخٍ في زاوية أو معلمٍ بين طلابه، بل كان أحد أبرز رموز الصحوة الدينية في بلاده، وعضوًا في المجلس الأعلى لحزب النهضة الإسلامية (IRPT) الذي حظرته السلطات تعسفًا وظلمًا سنة 2015، وصنفته زورًا بـ”المنظمة الإرهابية”، ضمن حملة شاملة قادها الرئيس إمام علي رحمون للاستئثار بالسلطة وقمعا لكل صوت معارض.

ومن ثم، لم يكن رحيله حدثًا عابرًا، بل شهادة دامغة على قسوة آلة القمع التي حرمته من العلاج والدواء، كما حرمت طاجيكستان من صوتٍ حر ظل ينادي بالحرية والإصلاح والدعوة بالحسنى والموعظة الحسنة حتى الرمق الأخير.

وُلد الشيخ زبيد الله روزيق سنة 1946 في منطقة خاتلون، قضاء عبد الرحمن جامي، جنوبي طاجيكستان. نشأ في بيئة ريفية محافظة، قبل أن ينخرط لاحقًا في صفوف الحركة الإسلامية التي مهّدت لتأسيس حزب النهضة الإسلامي في طاجيكستان. وعلى امتداد حياته، عُرف كداعية ومعلّم وصوت إصلاحي بارز. ومع اعتقاله سنة 2015، أودِع في سجن ياس-3/1 شديد الحراسة، وهو من أقسى معتقلات البلاد، حيث قضى سنواته الأخيرة حتى وفاته.

سيرة داعية ومعلّم

نشأ الشيخ زبيد الله في ربوع طاجيكستان، وشبّ على حب العلم والتربية، وكرّس حياته لبث الوعي الديني في نفوس الناس، ودعوتهم إلى إسلام معتدل يواسي القلوب ويشدّ العزائم في بلد أنهكه إرث الإلحاد السوفييتي. كان في طليعة من تقدّموا صفوف حزب النهضة الإسلامية، الذي مثّل يومًا الصوت الأقوى للمعارضة السلمية والدفاع عن الحريات الدينية والإصلاح الديمقراطي.

ومع بداية عام 1978، التحق بالحركة الإسلامية السرية، ثم كان من بين المؤسسين الأوائل لحزب النهضة عند تسجيله رسميًا سنة 1991. تولى رئاسة الأكاديمية الإسلامية للحزب، التي كانت منبرًا لنشر الفكر الوسطي وتخريج جيل من الدعاة والمثقفين، قبل أن تُغلقها السلطات عام 2013. بعدها عُيّن رئيسًا لقسم العلوم والعمل مع العلماء، كما شغل مناصب عليا داخل الحزب، فكان عضوًا في المجلس السياسي الأعلى ومجلس الرئاسة، ورئيس تحرير مجلة “نجاة” الناطقة باسم الحزب. لقد عاش حياته في خدمة الدعوة والتعليم، حتى أصبح رمزًا من رموز الصحوة الإسلامية في بلاده.

كان يمشي بين الناس كأنه شعلة هادئة، لا تطفئها رياح القمع.

أخبرني الصديق الدكتور الوالي أنّ الشيخ زبيد الله كان أول طاجيكي يتعرّف إليه في مسجد موسكو عام 1984، قبل أن ينتقل للدراسة في دوشنبه. ومنذ ذلك اللقاء الأول، توطدت العلاقة بينهما، حيث زاره الصديق الوالي في بيته مرات عديدة، وكان له معه ذكريات لا تُنسى في ميادين الدعوة والعمل الإسلامي.

لقد ترك الشيخ في نفسه أثرًا عميقًا، بما عُرف عنه من تواضع الدعاة وحيوية المربّين وحرصهم على غرس المعاني الكبرى في كل مجلس.

أذكر أنني زرت الشيخ زبيد الله في بيته بصحبة صديقي خولد، وكان ذلك في صيف عام 1989 خلال زيارتي إلى طاجيكستان مع زوجتي. استقبلنا الشيخ كعادته بوجهٍ متهلل وبساطة أهل الدعوة، فيما بادرت زوجته بجمع عددٍ من نساء القرية للجلوس مع زوجتي، يتبادلن الحديث حول الدين والسيرة العطرة وغير ذلك. أما نحن، فجلسنا في غرفة منفصلة مع الشيخ، مع جمع من تلامذته.

لقد بدا الشيخ في تلك الجلسة مدرسةً حية في الدعوة والتربية؛ يستثمر كل لحظة في بثّ الوعي وتذكير الناس بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم.

حدثنا الشيخ عن جولاته الدعوية في القرى لبث الوعي واجتذاب الشباب. كان يعلم ويربي ويبذل من جهده ونفسه وماله ولا يدخر وسعا في نصرة هذا الدين.

كان الشباب في طاجيكستان يقولون: إذا جلس الشيخ بيننا شعرنا أن قلوبنا انتعشت بالإيمان.

رحم الله الشيخ، فقد كان في حضوره وهيئته وكلماته قدوةً صامتة بليغة، قبل أن يكون داعية ناطقًا بالكلمات.

بداية المحنة

وكان عام 2015 نقطة الانكسار، حين قلبت السلطة الطاولة على كل الآمال ففي ظل ادعاء “محاولة انقلاب”، أقدم النظام على حل الحزب وشن حملة اعتقالات واسعة، طالت المئات من أعضائه وقياداته. وكان الشيخ في المقدمة، ليُحكم عليه بخمسٍ وعشرين سنة سجنًا، بعد أن وُجهت إليه تهم الإرهاب والتآمر على الدولة. غير أن هذه التهم، كما أكدت منظمات حقوقية دولية، لم تكن سوى ذرائع ملفقة لتبرير قمع شامل ضد المعارضين الإسلاميين.

رحلة العذاب في السجون

منذ لحظة اعتقاله، عاش الشيخ رحلة عذاب طويلة بين المرض المزمن والعقوبات المتكررة داخل السجن. فقد كان محتجزًا في سجن النظام الصارم بمدينة فحدات قرب دوشانبي، حيث تعرّض لسلسلة من المضايقات والعقوبات القاسية.

نموذج عن العقوبات داخل السجن والمضايقات التي تعرض لها الشيخ وراء القضبان:

يوليو 2020: وُضع في زنزانة عقابية انفرادية “شيزو” وهي زنزانة ضيقة بلا ماء ساخن، يعلو جدرانها العفن، ويقدَّم فيها طعام لا يصلح أن يُقدَّم لحيوان، خمسة أيام لمجرد حيازته مصحفًا. وقد اتهم ابنه أسرار الدين السلطات بمحاولة الضغط عليه لإجباره على تسجيل فيديو يهاجم فيه الحزب.

نوفمبر 2021: أُعيد إلى “شيزو” لمدة شهرين مع الداعية رحمت الله رجب، بعد أن وجها رسالة مفتوحة إلى الرئيس إمام علي رحمون طالبا فيها بالكشف عن تفاصيل “الجرائم” المنسوبة إليهما.

يوليو 2022: وُضع في “شيزو” مجددًا لمدة 15 يومًا بذريعة “انتهاك نظام السجن”، من دون أي توضيح.

سبتمبر 2022: عوقب بالحبس 15 يومًا في “شيزو” بسبب قيامه بتدريس بعض السجناء الآخرين.

أغسطس 2022: أُفرج عنه من “شيزو” بعد تدخل مفوض حقوق الإنسان، لكن الشكاوى استمرت بشأن سوء المعاملة.

تحولت سنواته في المعتقل إلى سلسلة متواصلة من الجراح، لم يشف منها جسد عليل ولا روح صابرة.

وقد وصفت أسرته هذه العقوبات بأنها تعذيب متواصل لرجل في الثمانين، مشيرة إلى حرمانه من الزيارات، وممارسة ضغوط على عائلته، إضافة إلى ظروف غير إنسانية داخل “شيزو”.

لقد أرادوا كسر إرادته، لكنهم لم ينالوا من عزيمته رغم مرضه وكبر سنه.

وإلى جانب هذه العقوبات، كان الشيخ يعاني من مرض قلبي خطير، تفاقمت حالته في أغسطس 2024، فنُقل إلى مستشفى السجن لفترة قصيرة، قبل أن يُعاد بسرعة إلى زنزانته رغم تحذيرات الأطباء. وقد اعتبرت المنظمات الحقوقية ذلك مثالًا صارخًا على سياسة الإهمال الطبي المتعمّد، بل أحد أشكال التعذيب غير المباشر.

وفاته لم تكن استثناءً، بل حلقة جديدة في نمط دموي يلتهم حياة المعارضين واحدًا تلو الآخر. ففي يوليو 2024، توفي القيادي محمد علي فيز محمد، البالغ خمسة وستين عامًا، داخل المستشفى نفسه نتيجة مرض القلب والسكري بعد حرمانه من العلاج المناسب. وهكذا تكشف الوقائع عن نمط متكرر: سجون مكتظة، إهمال طبي، وتعذيب ممنهج. تقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2025 أشار بوضوح إلى هذه السياسة، مؤكدًا أنها لا تُمارس على أفرادٍ بعينهم فحسب، بل على معظم السجناء السياسيين.

تتجلى هنا صورة ما يُعرف بـ”ثقافة الإفلات من العقاب” في طاجيكستان، حيث يُعامل السجناء السياسيون كأعداء للدولة. وقد أشارت تقارير وزارة الخارجية الأمريكية (2023/2025) إلى وفاة عدد من النشطاء داخل المعتقلات في ظروف مشبوهة، شملت دعاة إسلاميين وأفرادًا من الأقليات العرقية، خصوصًا من الباميريين.

ولم يقتصر القمع على الداخل فحسب، بل امتد إلى الخارج عبر ملاحقة المعارضين في الشتات. ففي تركيا وليتوانيا وبولندا، اعتُقل أعضاء من حركة “المجموعة 24” المعارضة ورُحّلوا قسرًا إلى طاجيكستان، حيث ظهرت على بعضهم آثار تعذيب واضحة. وهكذا ترسّخت صورة البلاد كأحد أسوأ الأنظمة في العالم في مؤشرات الديمقراطية وحقوق الإنسان.

غضب وردود فعل

ما إن أُعلن خبر وفاة الشيخ زبيد الله روزيق حتى عمّ الحزن أرجاء طاجيكستان وخارجها. أسرته أكدت الخبر، مشيرةً إلى أن الإهمال الطبي كان السبب المباشر للوفاة، وطالبت بتحقيق مستقل وشفاف في ملابساتها. أما المنظمات الحقوقية الدولية، فقد سارعت إلى التنديد. هيومن رايتس ووتش دعت إلى فتح تحقيق عاجل، وذكّرت بخمس حالات وفاة أخرى لناشطين من الباميريين خلال عام 2025 وحده. كما أصدر الاتحاد الأوروبي ومنظمة العفو الدولية بيانات قوية، دانت القمع المستمر وطالبت بالإفراج عن المئات من معتقلي حزب النهضة، الذين يُحتجزون منذ سنوات دون محاكمات عادلة وفي ظروف قاسية.

على وسائل التواصل الاجتماعي، تحولت صفحات النشطاء إلى فضاءٍ للنعي والتأبين. غصّت بالدعوات للشيخ بالرحمة والمغفرة، ووصفت رحيله بأنه فقدان لـ”رمز الصمود الإسلامي” و”صوت الدعوة الحرة”، في مشهد عبّر عن حزن جماعي عميق، امتزج فيه الغضب من الظلم بالأمل في أن تتحول ذكراه إلى منارة.

غير أن هذه النهاية الحزينة لا تُفهم إلا بالعودة إلى لحظة البداية عام 2015، حين خطفوه من بين أهله بعد صلاة العشاء.

لحظة الاعتقال

بداية رحلة العذاب في المعتقلات كانت في سبتمبر 2015، حيث كان الشيخ يؤدي صلاة العشاء في المسجد. وما إن عاد إلى منزله، حتى جاءه رجلان بملابس مدنية طالبت مرافقتهم لمسألة ملحة ولن يطول غيابه. خاطب أسرته بهدوء قائلاً:

“سأذهب معهم إلى جهاز الأمن القومي… وسأعود قريبًا ان شاء الله.”

قالها بصوت واثق يعلوه الإيمان، فيما ارتسمت على وجوه أهله غمامة من قلق.

لكن تلك العودة لم تتحقق.. سارع ابنه بلال مع ابن أخيه إلى مبنى الأمن القومي، وظلا ينتظران حتى منتصف الليل علّهما يسمعان خبرًا. لم يتلقَّيا إلا الجواب البارد: “لقد نُقل إلى مركز الاحتجاز.” وفي صباح اليوم التالي، تأكدت العائلة أن الشيخ أصبح رسميًا خلف قضبان السجن.

بعد أيام قليلة، استُدعيت زوجته إلى النيابة العامة. هناك، أُبلغت بتهم ثقيلة موجهة إليه، وهو الشيخ السبعيني بينما كانت نظرات المحققين تحمل رسالة واضحة: إسكات الصوت الإسلامي الذي لم يخضع. ولم تكتف السلطات بذلك، بل داهمت المنزل وأجرت فيه تفتيشًا دقيقًا، في محاولة لترهيب العائلة وكسر إرادتها.

من المحاكمة إلى الحكم

في التاسع من فبراير 2016، افتتحت السلطات محاكمة جماعية لأعضاء المجلس السياسي الأعلى لحزب النهضة الإسلامية، وكان الشيخ بينهم. جلس الرجل الذي بلغ حينها السادسة والسبعين على مقعد الاتهام، بعد حياةٍ طويلةٍ قضاها في خدمة العلم والدعوة.

وفي الثاني من يونيو 2016، صدر الحكم القاسي: السجن 25 عامًا في معتقل شديد الحراسة، مع حرمان إضافي من تولي أي منصب أو الانخراط في أي عمل سياسي لمدة خمس سنوات بعد الإفراج. وكأن النظام أراد أن يمحو اسمه من الحياة العامة، لكنهم غفلوا أن الأسماء التي تُنقش في قلوب الناس لا تمحوها قيود السجون. فحين أغلقوا باب الزنزانة على جسده، فُتحت في قلوب الناس أبواب تخاطب السماء، وباب السماء لا يغلق.

سيرة تختصر معاناة أمة

بين عام 1978، يوم خطا الشيخ زبيد الله روزيق أولى خطواته في الدعوة، وعام 2016، يوم حُكم عليه بالسجن المؤبد عمليًا، تمتد حياة حافلة بالعطاء والابتلاء. كانت حياته مرآةً صافية لمعاناة الإسلاميين في طاجيكستان: من الدعوة السرية في زمن الاتحاد السوفييتي، إلى الانفتاح القصير بعد الاستقلال، ثم إلى الانقضاض الأمني الشامل في العقد الأخير.

لقد ظل الشيخ رمزًا للصبر والثبات، وأحد الذين دفعوا أعمارهم ثمنًا لإيمانهم بمستقبل أفضل لشعبهم. لم يكن مجرد داعية أو معلم، بل مدرسة قائمة بذاتها، تُعلّم بالصبر كما تُعلّم بالكلمة.

رحيل وبداية مساءلة

لم يكن رحيل الشيخ زبيد الله مجرد نهاية لرجلٍ ثمانيني أنهكه المرض والسجون، بل كان بداية لسؤال أكبر عن نظامٍ يستغل شعار “مكافحة الإرهاب” لإخضاع شعب بأكمله. ففي بلدٍ يُضيَّق فيه على المصلين، وتُحاصر فيه حتى الأسماء، ويُحظر فيه حزب مثّل يومًا رمز المقاومة السلمية، تتجلى الحاجة إلى وقفة عالمية جادة.

إن المجتمع الدولي، والمنظمات الإسلامية، ومنظمات حقوق الإنسان، والمحاكم الجنائية الدولية، فضلًا عن الدول الكبرى، مدعوون اليوم للضغط على طاجيكستان من أجل إطلاق سراح سجناء الرأي ووقف هذه السياسات القمعية كي لا نشهد مزيدا من الجنائز تخرج من السجون.

وداعًا أيها الشيخ الجليل

صدق الشيخ الله فصدقه، آخر وصيته التي تسربت من جدران السجون قبل وفاته كانت ابلغوا اخواني مني السلام وقولوا لهم أنا على العهد لم نبدل ولم نتغير، فاثبتوا وواصلوا مسيرتكم بعزم وثبات، وختم وصيته بكلمة جامعة: ‘دولة الباطل ساعة’، يذكّر بها أن الظلم زائل مهما طال.

رحم الله الشيخ زبيد الله روزيق، وجعل قبره روضةً من رياض الجنة، وأجر الأمة في مصابها. لقد رحل الجسد، لكن بقيت السيرة شاهدًا، وبقي الصوت الصادق يتردّد في قلوب من عرفوه ومن سمعوا عنه: صوت الدعوة والصبر والصمود.

علي ابو عصام

تعليقات() النسخة المطبوعة

اضف تعليق