تكريم العلاّمة العلواني… كلمةٌ من الجيل الذي حمل الراية

العلامات:

0
14-10-2025

بقلم: علي أبو عصام

أعجبتني الكلمة التي ألقاها الدكتور محمد توتونجي، عضو مجلس أمناء المعهد العالمي للفكر الإسلامي، في المؤتمر العلمي الذي عُقد بمدينة إسطنبول تكريمًا لإرث العلّامة الراحل الدكتور طه جابر العلواني رحمه الله.

كان الخطاب مفعمًا بالاتزان والعمق، لا غلوّ فيه ولا تقليد، بل روحُ وفاءٍ متجدّدة. وليس ذلك بمستغرب على الدكتور محمد، فهو ابنُ أستاذنا وشيخنا الحبيب الدكتور أحمد توتونجي، ومن شابه أباه فما ظلم، كما يقول المثل العربي.

لم يقتصر حديثه على إنجازات العلواني العلمية، بل نفذ إلى جوهر شخصيته الإنسانية، وروحه الإصلاحية، ومنهجه المتوازن في تجديد الفكر الإسلامي، داعيًا إلى البناء على هذه الرؤية واستكمال مسيرتها.

أولاً: سمات العلواني الإنسانية

كان ودودًا متواضعًا، قريبًا من الناس على اختلاف مستوياتهم، يتواصل بعفويةٍ مع العلماء والطلاب، الرجال والنساء، الكبار والصغار.

وكان منفتحًا على الحوار، يُصغي بصدق، ويشجّع الشباب على التفكير والنقاش، متقبلاً الآراء المختلفة، ومجسّدًا في سلوكه هدي النبي ﷺ في اللطف والانفتاح.

أما في حياته الخاصة، فقد كان يعيش القرآن؛ يتلوه ويتأمله ويستشهد بآياته في حديثه وقراراته، حتى غدا منهجه اليومي انعكاسًا عمليًا للقرآن، يستشهد بآياته ويستمدّ منها رؤيته للحياة والناس

ثانيًا: رؤيته الفكرية والإصلاحية

كان العلواني مصلحًا ذا بصيرة، سعى إلى وصل التراث بالحاضر، وإحياء العقل الإسلامي في ميادين الفكر الإنساني والاجتماعي.

نظر إلى الإسلام بوصفه منهجًا متكاملاً للحياة، يتجاوز الطقوس إلى العمران الحضاري.

من “إسلامية المعرفة” إلى “تكامل المعرفة”

يُعدّ العلواني من روّاد مشروع إسلامية المعرفة الذي أسّسه مع نخبة من العلماء في مطلع الثمانينيات، قبل أن يتطوّر فكره لاحقًا إلى مفهوم تكامل المعرفة.

كان يرى أن العلوم الإنسانية والطبيعية لا بد أن تتكامل مع الهدي القرآني لبناء رؤية متوازنة للإنسان والكون والحياة، وأن الإسلام ليس طقوسًا وشعائر فحسب، بل منهج حياة شامل.

ومن خلال المعهد العالمي للفكر الإسلامي (IIIT)، أسّس لمشروع إسلامية المعرفة، الذي تطوّر لاحقًا إلى مفهوم تكامل المعرفة؛ ليؤكّد أن الوحي والعقل لا يتقاطعان، بل يتكاملان في بناء الإنسان والحضارة.

وقامت منهجيته على ثلاثة أعمدة كبرى: التوحيد (الرؤية الكونية)، والتزكية (تهذيب النفس)، والعمران (النهضة والعمران).

ثالثًا: أبرز مؤلفاته وأفكاره

أشار الدكتور توتونجي إلى عددٍ من أعمال العلواني التي شكّلت علاماتٍ فارقة في الفكر الإسلامي المعاصر:

  • "أدب الاختلاف في الإسلام": كتاب رائد دعا إلى الوحدة من خلال التركيز على القواسم المشتركة بين المسلمين، بدل تضخيم الخلافات، فكان نداءً للتسامح والحوار.
  • "الجمع بين القراءتين": تحدث فيه عن الكتاب المسطور وهو القرآن الكريم، والكتاب المنظور وهو الكون والطبيعة من حولنا. وتحدث عن عدم وجود تناقض بين العلم والدين، ودعا إلى قراءة الوحي والكون معًا لفهم الوجود فهما متكاملاً.
  • "من فقه الأقليات إلى فقه المواطنة": وهو من أهم كتبه أسّس من خلاله رؤيةً جديدة للمسلمين في المجتمعات غير المسلمة، تقوم على احترام العقود الاجتماعية والاندماج الإيجابي الكامل في مجتمعاتهم.
  • الدراسات القرآنية: كانت محور اهتمامه في سنواته الأخيرة، فأصدر أكثر من عشرة كتب ركّز فيها على التدبر المباشر للقرآن، "يجب ان تعيش القرآن وتتدبره"، وعلى فكرة أن مقاصد الشريعة مستمدة من مقاصد القرآن نفسه، لا بديلة عنها.وأنها تمثل الأساس الذي يوجّه التعامل مع الكون والإنسان والمجتمع.
  • في إطار منهجيّ متكامل، رأى العلواني أن الكتاب هو المهيمن والمبيِّن، وأن السنة تأتي تطبيقًا عمليًا له في انسجامٍ مع مرجعيته، لا في استقلالٍ عنها. وقد فصّل هذه الرؤية في كتابيه «إشكالية التعامل مع السنة النبوية» و*«حوار حول الأخبار في السنة النبوية»
  • وكان يؤكد أن تدبر الإنسان للقرآن يفتح الله عليه به أبواب الفهم، وهو ما تجلّى بوضوح في عمله الذي نُشر بعد وفاته: تفسير القرآن بالقرآن، الذي مثّل قفزة نوعية في منهج التفسير والتدبر.

تُرجمت مؤلفاته إلى الروسية وعدد من لغات شعوب أسيا الوسطى والقوقاز، وهي متاحة للتحميل عبر مواقع المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومركز تكامل المعرفة.

رابعًا: المؤسسات التي أسّسها

إلى جانب المعهد العالمي للفكر الإسلامي، أسّس الدكتور العلواني جامعة قرطبة ومركز طه جابر العلواني لدراسات القرآن، لتكون منارات علمية تواصل مشروعه في التجديد المعرفي والحضاري.

خامسًا: دعوة إلى مواصلة المسيرة

اختتم الدكتور محمد توتونجي كلمته بتأكيد أن المؤتمر لا ينبغي أن يظلّ مجرّد احتفاءٍ برجلٍ عظيم، بل انطلاقة جديدة لاستلهام فكره ومنهجه.

ودعا العلماء والباحثين إلى البناء على إرثه في:

  • تجديد التعامل مع القرآن الكريم فهمًا وتدبرًا؛
  • المضي في مشروع تكامل المعرفة وبناء الحضارة؛
  • تغليب روح الوحدة والعمل المشترك على الجدل والانقسام؛
  • تكريمه الحقيقي عبر تطوير أفكاره وتوسيع أثرها في الواقع.

ففكر العلواني ليس تراثًا نقرأه، بل مشروعًا نواصل به مسيرة التجديد القرآني والتكامل المعرفي والتفاعل الحضاري.

إذا أردنا تحسين وضعنا، إذا أردنا تطوير أنفسنا، إذا أردنا أن نأخذ دورًا قياديًا في الإنسانية، في الحضارة، في التنمية، أعطانا الله سبحانه وتعالى صيغة بسيطة جدًا أن نكون أولياء بعض، عندما يتحد الناس من أجل رسالة معينة، من أجل رؤية معينة، من أجل طموح معين، فإنهم يكونون أكثر نجاحًا وأكثر قوة وفعالية.

لذلك دعونا نتحد.

دعونا نركز على المستقبل.

دعونا نركز على البناء والتطوير.

دعونا نركز على القواسم المشتركة، ولنكرم حقًا حياة الشيخ الطاهر رحمة الله عليه، ونكرم رسالته، ونكرم رؤيته.

رحم الله الدكتور طه جابر العلواني، فقد ترك مدرسةً فكريةً حيّة تتجاوز الزمان والمكان، وبارك الله فيمن حملوا رايته بعده من تلامذته وأبنائه.

تعليقات() النسخة المطبوعة

اضف تعليق