بعد سنواتٍ من العمل الدعوي المحدود الذي اتّسم بالسرية والجهد الفردي، جاءت فكرة المخيّم الإسلامي التربوي الأول للشباب في الاتحاد السوفييتي لتفتح صفحة جديدة من العمل الجماعي المنظَّم.
كان المخيّم خطوة عملية في مسار النهوض الدعوي، ونقطة تحوّل في تنظيم الجهود الشبابية بعد عقودٍ من الانقطاع. لم يكن مجرّد نشاطٍ صيفي، بل تجربة تربوية وروحية جمعت بين أبناء الجمهوريات الإسلامية والدعاة القادمين من الخارج في مناخٍ من الأخوّة والتعاون، ومثّلت تعبيرًا صادقًا عن التطلّع إلى البناء والإصلاح وربط الجيل الصاعد بجذوره الإيمانية والإنسانية.
ولأن هذا المخيّم كان علامةً فارقة ومحطةً مهمّة في مسيرة العمل الإسلامي داخل الاتحاد السوفييتي، فإنه يستحق أن نخصّه ببعض التفصيل.
في صيف عام 1991، وأثناء استقبالي لأحد الوفود الخارجية، تعرّفت على الأستاذ سليمان باسهل، الذي كان يشغل منصب الأمين العام المساعد في الندوة العالمية للشباب الإسلامي. وخلال الحديث بيننا، طرحت فكرة إقامة مخيّم إسلامي للشباب داخل الاتحاد السوفييتي بالتنسيق مع حزب النهضة الإسلامي. ابتسم وقال بلطف: «كلمة حزب قد تُثير حساسية في السعودية، فلنكتبها حركة، فذلك أفضل.»
وبالفعل، بدأنا الترتيبات مع الندوة العالمية للشباب الإسلامي وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية، فكان أن أُعدّ أوّل مخيّم تربوي إسلامي في تاريخ الاتحاد السوفييتي، وذلك في جمهورية داغستان، واستمرّ أسبوعًا كاملًا في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 1991.
تولّى الدكتور أحمد قاضي وفريقه مهمة جمع الشباب وتنظيم الجانب الميداني، فيما أخذتُ على عاتقي التواصل مع المؤسسات الخارجية وترتيب تنقّل المدعوين من الأساتذة والدعاة القادمين من الخارج.
وصل إلى موسكو ثلاثة من الدعاة القادمين من المملكة العربية السعودية، وهم:
تأخّر وصولهم قليلًا بسبب إجراءات التأشيرات. وحين تأكدت من موعد وصولهم، سافر الدكتور أحمد قاضي إلى محج قلعة لمتابعة التحضيرات النهائية. استقبلت الضيوف في موسكو ورافقتهم في جولة قصيرة، ثم استقللنا القطار المتجه إلى داغستان.
كانت الرحلة طويلة — نحو أربعين ساعة — لكنها ممتعة، إذ تحوّل القطار إلى مجلسٍ حواريٍّ حيّ، تبادلنا فيه الحديث عن أوضاع الاتحاد السوفييتي والعالم الإسلامي وتجارب الدعوة في إفريقيا وآسيا. وكانت أحاديث الأستاذ أحمد جلبط حول المسلمين في إفريقيا غنية ومؤثرة.
قبيل الوصول إلى محج قلعة، توقّف القطار في محطة كيزيليورت لبضع دقائق، وفجأة اقتحم عدد من الشباب مقصورتنا وهم يهلّلون ويرحّبون بحرارة. كانت مفاجأة مبهجة؛ فقد عرفت بينهم الأخ سيد أحمد. التفتُّ إلى الضيوف المندهشين وقلت ضاحكًا: «هؤلاء من إخواننا المحليين، جاءوا لاستقبالنا، ويبدو أن الترتيب تغيّر — سننزل هنا.»
اندفع الشباب بحماسٍ عجيب يتناقلون الحقائب ويكادون يحملوننا عن الأرض فرحًا. حاول الشيخ عبد الحميد أن يرتدي ثوبه وبشته العربي استعدادًا للنزول، لكن الوقت لم يسعفه، فكنت أقول له مبتسمًا: «لا وقت! القطار سيغادر بعد دقائق!» وكانت المضيفة تضحك وهي تراقب المشهد المفعم بالحماسة على الرصيف.
كان مشهد الاستقبال مهيبًا ومؤثرًا بحقّ: عشرات الشباب يصطفّون على الرصيف، يتقدّمهم الدكتور أحمد قاضي وتلامذته القادمون من القرى الجبلية، وإلى جانبهم وفود من جمهوريات القوقاز المجاورة، وجميعهم بوجوهٍ تشعّ فرحًا وفخرًا.
اصطحبونا في موكبٍ إلى قرية مجاورة إلى بيت سيد أحمد، حيث أعدّت عائلته فطورًا داغستانيًا فخمًا، قبل أن ننتقل جميعًا إلى موقع المخيّم.
كان المكان منتجعًا صيفيًا على شاطئ بحر قزوين، استأجره الإخوة بالكامل لهذا الغرض. هناك تولّى الأستاذ أحمد جلبط الإدارة بخبرةٍ واضحة؛ فقسّم المشاركين إلى مجموعات، ووزّع الغرف، ورسم البرنامج، وعيّن أميرًا للمخيّم. وخلال دقائق، كان كل شيء منظّمًا بدقة: الواجبات، والمواعيد، والمحاضرات.
منذ الليلة الأولى، بدأ البرنامج بفقرة إيمانية وأذكارٍ جماعية، ثم قيام الليل قبيل الفجر، تليها صلاة الفجر وكلمة روحانية، ثم برنامج رياضي، فالإفطار، ثم حلقات دروسٍ ومجموعات نقاش.
كان المشاركون من مختلف الأعمار — فتيانًا وشبابًا وشيوخًا — ولم يُقصَ أحد، رغم أن المخيّم صُمّم أساسًا للشباب. استمرّ البرنامج أسبوعًا كاملًا على هذه الوتيرة، وترك أثرًا عميقًا في نفوس جميع المشاركين.
ومن هذا المخيّم انطلقت سلسلة من المخيّمات الإسلامية في روسيا وآسيا الوسطى، بعضها بتمويلٍ من الندوة أو هيئة الإغاثة، وكثيرٌ منها بدعمٍ من مكتب الدكتور توتونجي، الذي كان — جزاه الله خيرًا — يوصيني دائمًا قائلًا:«اكتب اسم الندوة، حتى إن لم تشارك رسميًا، فهي راية جامعة.»
وهكذا أُنجزت تحت اسم الندوة العالمية للشباب الإسلامي أعمالٌ كثيرة — من مخيّمات وكتب ونشرات — لتصبح تلك البذرة المباركة نواةً لأوسع حركة دعوية امتدت لاحقًا في أنحاء الاتحاد السوفييتي السابق.
وهكذا اكتسب المخيّم الإسلامي التربوي الأول مكانته ليس بما مثّله من حدثٍ تنظيمي فحسب، بل بما غرسه من وعي بأهمية الشباب في حمل رسالة الإصلاح.
لقد أثبتت تلك التجربة أن الاهتمام بالشباب هو أساس أي مشروع إصلاحي ناجح. فبهم تتجدد الأفكار، وتتقوّى المؤسسات، وتُحفظ الهوية في وجه التحديات.
إنّ رعاية الشباب لا تقتصر على التعليم أو التوجيه، بل تمتد إلى إشراكهم في العمل وتنمية شعورهم بالمسؤولية والانتماء. ومن خلال هذا المخيّم وأمثاله، تكرّس إدراكٌ عميق بأنّ الشباب هم الرصيد الحقيقي لأي نهضة، وأنّ غرس القيم في نفوسهم هو الخطوة الأولى في طريق بناء المستقبل.
.
IslamNews.Ru وكالة الأنباء
تسجيل الدخول ب:
Ответить
يقدّم الكاتب علي عصام في نصه «حين نطق الصمت» شهادةً فريدة عن مرحلةٍ منسية من التاريخ المعاصر، حين وُلد أول حزبٍ إسلامي في قلب الاتحاد السوفييتي أواخر الثمانينيات. من أروقة مسجد موسكو إلى قاعات أستراخان على ضفاف الفولغا، يتابع الكاتب رحلة تأسيس حزب النهضة الإسلامي، الذي مثّل آنذاك صوت المسلمين بعد عقودٍ من الصمت والإقصاء. النص يجمع بين دقّة التوثيق التاريخي ودفء السرد الإنساني؛ فهو يقدّم الأحداث بعيون الشاهد والمشارك، لا الراوي البعيد. تتجاور في صفحاته مشاهد التنظيم السري، والمراسلات الأولى، ومؤتمرات التأسيس، مع صورٍ نابضةٍ بالحياة عن الشخصيات التي صنعت تلك اللحظة، مثل الدكتور أحمد قاضي أخت...
Читать дальше