منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة في 7 أكتوبر 2023، والتي أودت بحياة ما لا يقل عن 67,000 فلسطيني — أغلبهم نساء وأطفال بحسب وزارة الصحة في القطاع حتى أكتوبر 2025 — ودمّرت نحو 70% من البنية التحتية، تغيّرت النظرة العالمية إلى الصراع جذريًا.
صور الدمار والقصص الخارجة من تحت الركام أجبرت العالم على إعادة النظر في مفاهيمه الأخلاقية والسياسية. لم تعد إسرائيل تُرى كضحيةٍ أبدية تسعى للبقاء، بل كقوةٍ عاتية تمارس العقاب الجماعي بلا حدود. أما الفلسطينيون، الذين حُرموا طويلاً من الاعتراف بإنسانيتهم، فقد أصبحوا الوجه الجديد للضحية في ضمير العالم.
سقوط سردية الضحية الإسرائيلية
على مدى عقود، بنت إسرائيل هويتها السياسية على سردية “الضحية التاريخية”، مستندةً إلى إرث المحرقة لتبرير سياساتها في الأراضي الفلسطينية.
غير أن صور غزة — بأطفالها المنتشلين من تحت الأنقاض، والمستشفيات المقصوفة، والأحياء التي مُسحت بالكامل — نسفت تلك السردية من أساسها.
تحوّلت إسرائيل من رمزٍ للخوف إلى مصدرٍ له، وغرقت في الغطرسة والعقاب الجماعي.
تبدّل ميزان التعاطف الإنساني: الضحية السابقة فقدت براءتها الأخلاقية، والمظلوم الذي أُسكت صوته طويلًا صار رمزًا عالميًا للصمود والكرامة.
انهيار أركان الرواية التقليدية
كانت الرواية الإسرائيلية تقوم على ثلاث ركائز: الخوف، النقاء، والضرورة.
• الخوف من الإبادة فقد معناه حين باتت غزة أكثر المناطق تعرضًا للتدمير في القرن الحادي والعشرين.
• ادعاء النقاء الأخلاقي انهار أمام قصف مستشفى الأهلي المعمداني ومدرسة الفاخورة ومقتل 15 صحفيًا في أقل من شهر.
• الضرورة الأمنية سقطت حين امتدّ القصف إلى المدنيين بلا هدفٍ واضح سوى العقاب.
ورغم تبرير إسرائيل بأن حماس تستخدم المدنيين دروعًا بشرية، تؤكد تقارير الأمم المتحدة أن 70% من الضحايا نساء وأطفال.
هذا الانهيار في الرواية التقليدية مهّد الطريق لصعود روايةٍ جديدة، يرويها الضحايا بأنفسهم عبر الكلمة والصورة.
الإعلام الجديد وكسر احتكار الرواية
في الماضي، كانت إسرائيل تتحكم في سرد القصة عبر وسائل الإعلام الغربية، حيث تُخفّف لغة الصحف وقع الدماء وتصف القصف بأنه “أضرار جانبية”.
أما اليوم، فقد انهار هذا الاحتكار. من تحت الركام خرجت الحقيقة مباشرة إلى هواتف الملايين حول العالم.
مقاطع الصحفيين الفلسطينيين — مثل وائل الدحدوح الذي فقد زوجته وأطفاله في قصفٍ مباشر، وبلال الخالدي الذي واصل التغطية رغم استهداف مواقع إعلامية وسقوط زملائه، وسامر أبو دقة الذي استُشهد وهو يصوّر تقريرًا ميدانيًا والكاميرا ما تزال في يده — حصدت عشرات الملايين من المشاهدات على منصات التواصل الاجتماعي، لتصبح غزة مركزًا لسردٍ عالمي بديل تُروى فيه الحقيقة من بين الركام لا من خلف المكاتب.
المرآة التي كشفت الغرب
كشفت الحرب على غزة عن التناقض العميق في الخطاب الأخلاقي الغربي.
الغرب الذي يرفع شعار حقوق الإنسان، يغضّ الطرف عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
لم تعد إسرائيل تُرى كاستثناءٍ تاريخي، بل كامتدادٍ واضح للمشروع الاستعماري الذي يتحدث باسم “القيم الإنسانية” ويمارس نقيضها.
“إن كنتَ محايدًا في مواقف الظلم، فقد اخترتَ جانب الظالم.”
— ديزموند توتو
تحوّلت غزة إلى مرآةٍ أخلاقية تعكس زيف ازدواجية المعايير في السياسات الدولية.
تحوّل في الوعي العالمي
التحوّل لم يكن سياسيًا فحسب، بل أخلاقيًا بالدرجة الأولى.
استطلاع للرأي أجرته مؤسسة Gallup عام 2024 أظهر تراجع تأييد الشباب الأمريكي (18–34 عامًا) لإسرائيل بنسبة 27% خلال عامٍ واحد.
لم تعد القضية الفلسطينية قضية “الشرق الأوسط”، بل أصبحت مقياسًا عالميًا للعدالة والكرامة.
جيلٌ جديد من الناشطين والصحفيين والفنانين في الغرب — من غريتا تونبرغ إلى روجر ووترز — بات يرى في غزة اختبارًا للضمير الإنساني، ويرى في الصمت تواطؤًا لا حيادًا.
خاتمة: من المعاناة إلى المعنى
لقد انتصرت غزة في “معركة المعنى” رغم دمارها، لأنها أجبرت العالم على النظر في مرآته فاكتشف تناقضه.
سقط القناع:
• القوة وحدها لا تمنح الشرعية.
• والغرب لم يعد قادرًا على إخفاء نفاقه الأخلاقي.
لكن هذا الانكشاف لا يكفي وحده.
المطلوب اليوم أن يتحول هذا الوعي الجديد إلى ضغطٍ سياسيٍ حقيقي — مقاطعة، احتجاجات، وتشريعات — تضع العدالة في موضع الفعل لا الشعار.
تلك الحرب لم تكن على أرضٍ فحسب، بل على ضمير العالم نفسه —
وفيها، خرجت الحقيقة من تحت الركام أقوى من كل سلاح.
IslamNews.Ru وكالة الأنباء
تسجيل الدخول ب: