ألكسندر دوغين: مفكّر صاخب… وصورة غربية تفوق حجمه الحقيقي

العلامات:

0
28-09-2025

سألني صديق عزيز من إحدى دول الخليج، بعدما شاهد مقابلة تلفزيونية:

«أليس دوغين هو ذلك العقل الذي يقف خلف بوتين؟ أليست روسيا تنفّذ أفكاره؟»

سؤالٌ تكرّر مرارًا في المجالس العربية مؤخرًا، خصوصًا لدى من يتابعون ظهوره المكثّف في الإعلام العربي بأسلوب يوحي بأنه أحد صنّاع القرار في موسكو. غير أنّ متابعتي للإعلام الروسي تقول شيئًا آخر تمامًا.

لقد انتشرت في عالمنا العربي رواية جذّابة مؤداها أن الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين هو «مهندس الأوراسية» و«العقل المدبّر لبوتين»، وأن نظرياته تُرسم على أساسها السياسة الخارجية الروسية. ساعد في ذلك حضوره الإعلامي اللافت، وترجمة بعض مؤلفاته إلى العربية بوصفها مفاتيح لفهم الاستراتيجية الروسية.

لكن هذه الصورة — كما تصلنا — قادمة أساسًا من المخيال الغربي. ففي الإعلام الغربي يظهر دوغين بوصفه «العرّاب الغامض» الذي يهمس في أذن الرئيس، ويحدّد بوصلة الصراع الحضاري مع الغرب. إنها قصة مثالية لصناعة دراما سياسية: خصمٌ ميتافيزيقي يضفي على خطوات موسكو بُعدًا فلسفيًا عميقًا. فالقصة مغرية للقارئ الغربي: روسيا ليست مجرد دولة ذات مصالح، بل مشروع حضاري يقوده «الكاهن الأسود للكرملين».

غير أن هذه الأسطورة تقف على أرض رخوة. فالحقائق أبسط بكثير: دوغين لم يتولَّ يومًا أي منصب رسمي أو استشاري في الكرملين، وليس عضوًا في مجلس الأمن القومي، ولا يدخل ضمن الحلقة المقرّبة المحيطة ببوتين. وحتى الأجهزة الروسية التي تصنع القرار — الأمنية والعسكرية والاقتصادية — تنظر إليه في الغالب بعين الحذر، لأنه يميل إلى التنظير الراديكالي أكثر مما يقدّم حلولًا عملية قابلة للتنفيذ. وحتى حادثة اغتيال ابنته داريا عام 2022، رغم ما أثارته من تعاطف واسع، لم تغيّر مكانته داخل منظومة الحكم.

السبب في ذلك واضح: الكرملين اليوم ليس مشروعًا رساليًا ولا ثورة حضارية كاسحة، بل دولة محافظة تعمل وفق حسابات مصالح دقيقة، وتقترب من الغرب أو تبتعد عنه بناءً على موازين القوة، لا على رؤى ميتافيزيقية.

أما دوغين، فمشروعه حلمٌ كاسح بحق: إمبراطورية أوراسية تمتد من لشبونة إلى المحيط الهادئ، وثورة فكرية عالمية ضد الليبرالية — وهي طموحات تفوق بكثير قدرة موسكو الواقعية واستعدادها.

ثم إن الأفكار التي يروّج لها دوغين ليست ابتكارًا شخصيًا بقدر ما هي امتدادٌ لتيارات عميقة في التاريخ الروسي، تعود إلى السلافوفيلية في القرن التاسع عشر، وإلى تقاليد تمجيد الخصوصية الحضارية الروسية ورفض الهيمنة الغربية. الكرملين يستلهم هذا التراث المحافظ، لكنه يقدّمه في قالب دبلوماسي واقعي، لا كمشروع لتغيير وجه العالم.

هنا تكمن المفارقة: الغرب هو الذي يحتاج دوغين… أكثر مما يحتاجه الروس. فبالنسبة للغرب، هو رمز جاهز لتبسيط القصة: رجل متطرّف يرسم خريطة الإمبراطورية الروسية الجديدة. وهكذا تتحوّل روسيا من خصم جيوسياسي إلى خصمٍ فلسفي أسطوري، وتُختزل مؤسسات معقّدة وشبكات مصالح كاملة في صورة مفكر صاخب يطلّ على الشاشات.

لكن الحقيقة على الأرض أوضح بكثير: صوت دوغين الخارجي أعلى من تأثيره، وصورته في الإعلام أكبر من وزنه داخل الدولة، وحضوره في الغرب أقوى بكثير من حضوره في موسكو.

دوغين ليس مفتاح فهم روسيا… بل مفتاح فهم الغرب حين يتخيّل روسيا.

إنّ تضخيم دوره يمنح المشهد بعدًا ملحميًا، لكنه يحجب عن الأعين طبيعة الدولة في روسيا حاليًا: نظامٌ وطني محافظ، يتحرك وفق موازين القوة لا وفق أحلام الفلاسفة.

وربما سأجيب صديقي الخليجي، بعد كل هذا، قائلًا: ليس كل حضور إعلامي دليلًا على نفوذ سياسي، ولا كل من يبرز أمام الكاميرات صانع قرار.

فروسيا — كما العالم — تحكمها موازين المصالح لا أصوات المفكرين.

ولذا سيبقى دوغين — على الأرجح — عند هامش الصورة في الداخل…مهما علا صوته أمام الكاميرات في الخارج.

Автор: علي أبو عصام

تعليقات() النسخة المطبوعة

اضف تعليق