مشاهدات عربي في بلاد التتار
"المجلس" – طقوس تحفظ أمة.
في قلب نسيج الهوية التترية الممتد عبر القرون، يبرز 'المجلس' ليس مجرد عادة اجتماعية، يلتقي بها الناس، بل كحصن اجتماعي منيع ساهم في صمود التتار في وجه عواصف الإذابة ومحاولات الطمس ومحو الشخصية، التي تعرضوا لها على مر السنين.
بعض هذا الصمود تلمسه حتى في تحيتهم اليومية 'إسَانميسيز؟' والتي تعني حرفياً 'أطيب أنت؟ تأتي كصيغة سؤال نابع من أعماق معاناتهم وتاريخهم الصعب، كتعبير عن فلسفة عميقة، تختزل 500 عام من التحدي والمقاومة، وتعكس إرثاً من التكافل والاهتمام المتبادل، تَشكّل رغم المآسي منذ عهد إيفان الرهيب، واحتلال قازان، وتشتتهم في الأرض.
تحيتهم ليست مجرد كلمات، ومجلسهم ليس مجرد لقاء لتناول الطعام، انه رسالة تحد، لقد نجونا، رغم كل محاولات التهميش وطمس الهوية، ورغم كل مساعي محو الدين واللغة والتقاليد.
لقد طور التتار صيغة تتحدى الحظر على الاجتماعات، وتتحدى حظر تعليم الدين او الدعوة اليه، وتتحدى محاولات طمس الهوية، بصيغة شعبية اجتماعية عميقة المغزى، عظمية التأثير، هي الاجتماع كلما سنحت فرصة في بيت احدهم تحت مسمى "المجلس".
المناسبات
يعقد "المجلس" في مناسبات متنوعة؛ سواءً كانت سعيدة كعقد القران أو تسمية المولود، أو حزينة مرتبطة بالوفاة كذكرى وفاة أحد الأحبة (كالوالدين أو الزوج أو الأبناء)، أو دينية كأيام رمضان وعيديّ الفطر والأضحى. وفي جميع هذه المجالس، يُدعى عادةً "مُلا" (مُعَلِّم أو إمام) يحرس الإرث الروحي ويرعى الطقوس.
في العادة يتم تحديد يوم للمجلس يدعى إليه الاهل والاقارب، قبل فترة مناسبة من الموعد كي يرتبوا مواعيدهم وأعمالهم بناء على ذلك. وفي الغالب من يتلقى دعوة للمجلس يلبيها.
أما مكان إقامة المجلس، ففي السابق كان ينحصر غالبًا في بيوت أصحاب المناسبة، ونادرًا ما يُعقد في قاعات المناسبات (المعروفة باسم "بانكيتني زال – Banketny Zal"). لكن مؤخرًا، ظهرت مطاعم تترية متخصصة لاستضافة هذه المجالس، حيث تتكفل بتجهيز الطعام وفق قوائم متفق عليها مسبقًا، بل وتقدّم خدمة استدعاء المُلا من قوائمها الخاصة إذا لم يكن لدى أصحاب المناسبة شخصٌ محدد يرغبون بدعوته.
المدعوون وطقوس المجلس
يقبل المدعوون إلى المجلس يحمل كل منهم هدية لأصحاب الدار عبارة عن حلوى او شيكولاتة، او أنواع من الشاي المميز.. وهكذا مما يرونه مناسبا دون تكلف،.
نظرا لضيق مساحة البيوت، وكي يتمكن جميع المدعوين من الجلوس يقوم اصحاب المجلس بنصب لوح من الخشب بين منضدتين يغطونه بالقماش، لاستخدامه كمقعد طويل، ويجلس الحضور على ذلك المقعد المبتكر، متراصين مما يتيح المجال لاستقبال عدد اكبر من الضيوف.
وفي ذات الوقت يكون اصحاب المجلس قد هيأوا مائدة تزخر بما لذ وطاب من السلطات والمقبلات، وأنواع الفاكهة، والأهم أنواع المعجنات التقليدية "أوماك" (معجنات طرية خالية من الحشو تخبز بالفرن).. تُتوج المائدة كرمز للكرم التتاري.
ويختلف تنوع السلطات بحسب سعة وميسورية الداعي ففي بعض المجالس يقدم الكافيار الأحمر "بطارخ السمك" وأنواع متعددة من السمك المدخن، وكذلك شرائح الكازي( وهو نوع من السجق المصنوع من لحم الخيل المجفف، وهو طبق تقليدي في العديد من دول آسيا الوسطى كذلك. ويتميز الكازي بنكهته الفريدة، ويُعتبر جزءًا هامًا من المطبخ والثقافة التتارية)، وفي بعضها تكون المائدة متواضعة اكثر، لكنها مع ذلك غنية بالفاكهة والسلطات منزلية الصنع.

تجهيزات مسبقة
في بعض الأحيان قبل المجلس بيوم تجتمع بعض السيدات المقربات عند صاحبة المجلس يعاونها في التحضير والتجهيز.
بعد ان يكتمل حضور المدعوين يجلسون حول المائدة عادة منفصلين رجالا ونساء على طرفي المائدة وإن كانت المساحة تسمح فعلى مائدتين منفصلتين.
تقاليد وطقوس
للمجلس تقاليد وطقوس جميلة، تتشابه في الأسلوب بين مختلف المناطق التتارية، وتتنوع في الترتيب كما سنرى لاحقا.
من المتعارف عليه في المجالس أن تغطي النساء رؤوسهن بمنديل حتى لو كانت غير محجبة، احتراما للمجلس ولحضرة الملا، ويضع الرجال غطاء الرأس القومي المسمى تيبوتيكا "тюбетейка".
وهذا الزي ليس مجرد تقليد، بل تأكيدٌ على الانتماء وصَوْن الهوية، واحترام للتقاليد الموروثة حتى لو لم يلتزم البعض بها في الحياة العامة.
الافتتاح
بعد ان يجلس الجميع، يفتتح الملا المجلس بالبسملة والدعاء لأهل المجلس والحاضرين ويشكرهم على هداياهم وصدقاتهم. فينا يرفع الحضور أكفهم للسماء ويؤمنون على دعائه، ثم يمسحون وجوههم عند ختم الدعاء (لتحل بركة الدعوات).
ملاحظة
لاحظت ان التتار كما مسلمي آسيا الوسطى، حين يدخلون بيتا، يسلمون وقبل ان يجلسوا او في بعض الأحيان بعد الجلوس مباشرة، يرفعون أيديهم بالدعاء ويرددون الآية الكريمة؛ (ربنا انزلنا منزلا مباركا وانت خير المنزلين) وبعد ذلك يبداً الكلام.
الوجبة الأولي
بعد دعاء الافتتاح يأذن الملا بسكب الحساء، وهو عادة شوربة الشعيرية المصنوعة منزليا، فيسكب منها للجميع ولا يبدأون الطعام قبل ان يقرأ الملا دعاء الطعام.
وفي روسيا وكذلك لدى التتار يسمون الحساء والشوربات (الاولى)، ربما لهذا السبب كونه يبدأ بها.
بعد تناول الحساء، يرفعون الأطباق، او في بعض الأحيان يبقونها، ويوزعون على المائدة صحون الوجبات الرئيسة، موزعة على المائدة بشكل متناسب لتغطي عدد الحضور، وبالعادة تكون الوجبة الرئيسة هي البطاطا المسلوقة مع الجزر المبروش وفوقها او في صحون منفردة يقدم اللحم المسلوق. وغالبا ما يكون من لحم البقر او العجول، او الدجاج المسلوق، واحيانا يقدم لحم خيل مسلوق، وهو وجبة معتبرة عندهم.
بشكل عام لا يحب التتار على عكس شعوب آسيا الوسطى والقوقاز لحوم الخرفان، ويتجنبونها إلا في فترة عيد الأضحى، وذلك لدهنيتها العالية ورائحة الزنخة التي تنبعث منها. وهو امر ملحوظ لدى عامة التتار.
وأحيانا يضاف اليها أطباق من البلوف ( البيلاف أو البيلاو باللهجة التترية) (الأرز المطبوخ باللحم والجزر) وهو من تراث آسيا الوسطى، مما يعكس التأثر به مع الحفاظ على المذاق التتاري المميز.
قراءة القرآن والدعاء
بعد ان يتناول الضيوف طعامهم ترفع الوجبة الساخنة الرئيسة والسلطات والمقبلات التي كانت على المائدة، ويأخذ مكانها أطباق تحوي تشكيلات من حلويات وكعك متنوع ألوانه، وأنواع متعددة من السكريات والشيكولاتة..
ولكن لا يمسه احد، فالفقرة الان لقراءة القران والدعاء.
يبداً الملا تلاوة القران فور اكتمال توزيع الحلويات على المائدة.
ويقرا ما تيسر من السور وبالغالب الفاتحة واوائل البقرة واية الكرسي واوائل ياسين والرحمن.. فيما الحضور يستمعون بخشوع، رغم غربة اللغة العربية عنهم إلا أنهم يلتزمون بالإنصات إجلالا لكلام الله .
وبعد ان يكمل القراءة يوجّه الملا حديثه للحاضرين بموعظة خفيفة او توجيه ديني معين.
ثم يبداً بالدعاء، للميت ان كانت مناسبة عزاء بعد ذلك يبداً بسرد اسماء الأموات من اهل اصحاب المجلس، يقرأها من ورقة مجهزة مسبقا يعطونها له، بدونون فيها أسماء أحبائهم ممن فارق الحياة وارتحل إلى الدار الآخر، اسمه واسم أبيه، فلان ابن فلان وفلانة بنت فلان، وهكذا، كي تنالهم جميعا بركة الدعاء، والصدقات.
صدقات المجلس
وقبل ان يختم الدعاء يقوم اصحاب المجلس بتوزيع صدقات على جميع الحاضرين، وكذلك يفعل اغلب الحاضرين حيث يكونوا قد جهزوا صدقات لهذه المناسبة، يبادلون توزيعها على الحاضرين
تنوع أشكال الصدقات
الصدقات عادة تكون قطع صابون، او مناديلا قماشية، او مناشف، أو أي شيي مفيد من الصدقات، القابلة للاستخدام لفترة طويلة، مما يُعزِّز استمرار الأجر حتى بعد انقضاء المناسبة. وكي يطول اثر الصدقة عن الميت وأهل المجلس. وبعض الناس يوزعون نقودا.
يبدأون بالملا الذي يكون المبلغ المعد له عادة اكبر من المبالغ اللي يوزعونها على باقي الحضور، ثم يطوفون على الجميع، ويعطون كل واحد الصدقة التي جهزوها..حتى آخر الحضور.
والصدقات كما ذكرت ليس لها شكل محدد، اذكر مرة انه في احد المجالس وزع احدهم جرابات قطنية، وفي مجلس آخر وزعت قمصان قطنية، وفي احدها ميداليات عليها صورة الكعبة، ومرة وزعت روزنامة (تقويم العام) عليها صورة مسجد "كول شريف" في قازان، وهكذا.

توزيع الصدقات ليس عملاً خيرياً فحسب، بل إعادة تأكيد للروابط الاجتماعية والروحية، التي تربط الحضور، وتعزيز للانتماء إلى الأمة وتراث الأجداد.
هذا التبادل الطقسي للصدقات يعيد تشكيل خريطة القرابة: فكل هدية تذكر بالانتماء إلى نسيج أكبر من الأفراد.
حبن ينتهي توزيع الصدقات، يرفع الملا يديه بالدعاء بأن يتقبل الله من أصحاب الصدقات، ويبارك في أعمالهم وأعمارهم، ويدفع عنهم الضر والأذى، ويردّد الحاضرون 'آمين' بخشوع، وكأنّ الأيدي المرفوعة الرابطة بين الأرض والسماء.. ترسم خريطة وجود: حيث يُولد الموتى من جديد بصدقات الأحياء الأوفياء لذكراهم بالدعاء.

الجولة الثالثة الشاي والحلويات
حين يفرغ الملا من الدعاء، تبدأ المرحلة الثالثة وهي فترة الحلويات..
قبل ذلك يحضرون منشفة مبللة وأخرى جافة لتنظيف الأيدي بعد ملامسة النقود، وأحيانا يوزعون أكياسا لجمع الصدقات الموزعة في المجلس مثل قطع الصالون والصدقات الأخرى.
ثم تأتي فقرة الشاي الساخن، والحلويات اللذيذة.
ولتقديم الشاي وشربه طقوس فريدة، تبدأ في قرى وأرياف التتار، من تسخين الماء في سخّانات ماء تقليدية تُعرف باسم "الساموفار" (والتي عُرّبت لاحقًا إلى "ساماور")
يُسخَّن الماء فيها حتى الغليان، فيما يحافظ الجمر المُتبقي في موقدها الداخلي على سخونة الماء لساعات طويلة.
يُشعل الحطب أولاً خارج المنزل لتسخين الساماور، وبعد أن يغلي الماء وتخبو جذوة النار، يُنقل إلى الداخل ويوضع على صينية خاصة فوق المائدة. يُعبَّأ الماء الساخن منه مباشرةً في أباريق الشاي ليُقدَّم للضيوف. ويتميز الشاي المعد بماء الساماور بمذاقٍ خاص (ناتج ربما عن التسخين بالحطب) وهو مذاق محبب لمن اعتاده.
طقوس تقديم الشاي:
يُقدَّم الشاي الساخن في فناجين خزفية عميقة، وهذه الفناجين عادة تتباين بحسب ثراء المضيف، منها ما هو غالي الثمن تشيكي الصنع من العهد السوفييتي، ومنها ما كان من مصانع الخزف الروسية او السوفييتية،
يُملأ الفنجان عادةً حتى حافته، وكأنه على وشك الفيضان، وهذا علامة على الكرم والترحاب. في الشام على العكس تماما ان ملأت الفنجان لآخره فهي علامة على ان قلبك فاض بالغيظ عليه.

التتار عادة يُفضّلون شرب شاي خفيف وفاتح اللون؛ فإذا كان مركزاً نتيجة التخمير الطويل، يُصبُّ قليلٌ من المنقوع في الفنجان أولاً ثم يُخفَّف بالماء المغلي من الساماور – وهي عادةٌ شائعة أيضاً لدى الأتراك.
من عادات شرب الشرب:
يبدأ الجميع بتناول الحلويات مع رشفات الشاي. ويحرص المضيف باستمرار على ملء فناجين ضيوفه؛ فحالما يقترب الشاي من النفاد، يُصبُّ المزيد لضمان ألا يبقى الفنجان فارغاً، بل يُضاف الشاي الساخن أحياناً لمجرد الحفاظ على درجته. يستمر هذا الدفق من الكرم حتى يضع الضيف كفه فوق فنجانه أو يضع ملعقةً فوقه، إشارةً إلى الاكتفاء وعدم الرغبة في المزيد.

طقوس الشاي: جسرٌ ثقافي
ولشرب الشاي عند التتار طقوس مميزة، تشابه مثيلاتها عند الشعوب التركوية مما يجعلها جامعا ثقافيا بين هذه الشعوب.
من عادتهم أنهم يصبون الشاي من الفنجان الممتلئ الساخن، إلى الصحون الصغيرة التي توضع عادة تحت الفنجان، ويرشفون منها، وهي طريقة سريعة لتخفيف سخونة الشاي..
ولا يذيبون السكر في الشاي لتحليته، إلا ما ندر، وبدلا عن ذلك يستخدمون مكعبات السكر، يكسرونها بأسنانهم (تقليدٌ تركي قديم) ويرشفون الشاي عليها فتذوب كسرة السكر في الفم مع رشفات الشاي.
وقد رأيت مثل ذلك في أذربيجان وهي عادة دارجة لدى الشعوب في آسيا الوسطى، ورأيتها في إيران كذلك، إلا أن طبيعة السكر هناك تختلف.
واحيانا يجهزون قوالب السكر في البيت وتكسر قطعا صغيرة، تشبه إلى حد ما سكر بنات في ايران.

ورأيت بعضهم يضيف قطعا من التفاح الطازج، او الإجاص في فنجان الشاي الساخن، او فاكهة مجففة مثل الكوراغا "курага" (المشمش المجفف) او الخوخ المجفف بالروسية والتترية "سليفا") (слива)، او الزبيب، وذلك يعطي للشاي طعما مختلفا، يخلق مزيجاً حامضاً-حلوياً ويمنحه مذاق الفاكهة المحبب. وفي أذربيجان تُستخدم أحيانا قشور الحمضيات.
هذه اللمسات ليست ترفا او مجرد عادات غذائية، بل هي شفرات ثقافية لحفظ الهوية تتوارثها الأجيال.
ومع انتهاء شرب الشاي، يختتم الملا المجلس بدعاء قصير، شاكرا اصحاب المنزل والحضور موصيا إياهم بالتزام تعاليم الدين الحنيف، قبل ان يغادر.
في مجلس في ضواحي موسكو، تحدث الملا (وكان شيخا كبيرا) حاثا على الحفاظ على عادة الاجتماع في المجالس، بعد أن لاحظ عزوفا لدى الجيل الناشئ عن ذلك.
وفي مجلس آخر حذر الملا من خطر انقراض عادة الاجتماع في المجلس، بعد ان صمد قرونا في مواجهة الخصوم، بسبب فهم خاطئ لبعض أبنائنا، تحت ذريعة 'البدع'. موضحا ان لو كان المجلس فقط لإطعام الطعام لكان امرا مرغوبا لذاته، مستشهداً بالآية الكريمة 'ويُطعِمون الطعامَ عَلى حُبِّهِ' فما بالك انه طريقة للتواصي بالحق والخير والصبر والاستماع لايات الله وكلامه؛ ومات بعد يومين وكانت كلماته كأنها وصية وداع..
الختام والمغادرة
ويبدأ القوم بعد ذلك بالمغادرة، ومنهم من يتأخر مستأنسا لحديث، أو جولة أخرى من الشاي والحلوى، خاصة اصحاب المجلس النساء اللاتي كن يشرفن على الضيافة.
وأحيانا ان عقد المجلس في الريف او تأخر الوقت، يقوم اصحاب الدار بترتيب النقل للملا والضيوف ممن لا مركبة لديهم.
البنية العامة
هذه هي البنية العامة للمجالس السائدة في مناسبات العزاء او ذكريات الوفاة، وهي تبداأ من ما بعد الوفاة ثم ذكرى الأربعين، ثم الذكرى السنوية للوفاة.
وشبيه بها مجالس الصدقة التي تعقد، صدقة وتقربا إلى الله شكرا على نعمة كريمة او دفع اذى وضر..
التنوع
تنتشر تجمعات التتار في العديد من مناطق روسيا، وهم من نشر الإسلام في أصقاع الشمال، وقلما تجد منطقة في روسيا تخلو من تجمع تتاري، من أقصى بقاع سيبيريا وحتى كاليننغراد في أقصى غرب روسيا، ولكن بالمجمل هناك مناطق تتركز غالبيتهم فيها، مثل جمهوريتي تتارستان وباشكيرستان، ومناطق حوض الفولغا، ومحافظة نيجني نوفغورود التي يوجد بها تجمع كبير للقرى التتارية. ومنطقة تيومين في سيبيريا.
رغم الوحدة الجوهرية لبنية المجلس، في مختلف المناطق، إلا أن جغرافية التتار تنسج تفاصيلَ خاصة تتسم بها كل منطقة.
لاحظت في قرى التتار في محافظة نيجني نوفغورود ترتيبا مختلفا في نمط المجلس، حيث يبداًون بعد الافتتاح بالكعك ومعجنات الأوماك والكوبتبرمي (وهي نوع من المعجنات تشتهر به هذه المنطقة دون غيرها من مناطق التتار)، والشاي والفاكهة. ثم يأتي الحساء تليه الوجبة الساخنة، وبعد ذلك يبداً الملا تلاوة القرآن والدعاء، وبعدها تأتي فقرة ثانية من الشاي والحلويات وأنواع السكريات.
في محافظة ساراتوف على حوض الفولغا شهدت مجلسا مع احد المفتيين وكانت البداية بأقراص "البيراميتس" اللذيذة، التي تعتبر بحق تاج المطبخ التتري، وهي أقراص معجنات تحوي مفروم اللحم، وتقلى بالزيت او تخبز بالفرن حتى تحمر وينضج اللحم.
وفي قازان شهدت شيئا قريبا من هذا. حيث يقدم أولاً فطائر ال"أوتش باتشماك" (الفطيرة المثلثة) وهي عجينة محشوة بأنواع اللحم والبطاطا (الدها ما كان بلحن الأوز) ثم تخبز بالفرن وتقدم ساخنة، ويشتهر المطبخ البازلتي بأنواع متعددة من المخبوزات الشهية، مثل "البيلاتش" لا تجد لها مثيلا في باقي مناطق التتار.
تسمية المولود
اما ان كانت مناسبة سعيدة كتسمية المولود مثلا، فالطقوس نفسها إلا ان تسمية المولود تكون في الفقرة بعد قراءة القران حيث يحضر المولود على وسادة إلى الإمام الذي يؤذن في أذنه ويقيم الصلاة ثم يناديه بالاسم الذي اختاره له الوالدان، فيقول سميتك فلانا ثلاث مرات.
ثم يدعو له ولأبويه واهله. وبتلقى التهاني من اصحاب المجلس ويتلقون اهل المولود الهدايا والتهاني بالمولود الجديد. ويدعون له.
مجلس العيد
في مجالس الأعياد يضاف إلى ما سبق تكبيرات العيد، ويرددونها بشكل جماعي مع الملا في افتتاح المجلس. ومن أجمل ما شهدت ان الطعام ان أقيم من لحم الأضاحي القربان فإنهم يكبرون تكبيرات العيد قبل تناوله حتى لو كان المجلس بعد أشهر من انقضاء العيد.
مجلس النكاح
اما النكاح فله ترتيب آخر وإن تشابه بالشكل مع النمط العام للمجلس إلا انه اكثر مرحا وفيه فقرات إضافية سنكتب عنه لاحقا ان شاء الله.
لا تمييز او تفاوت
في المجالس يمكن ان تلتقي بطبقات وشرائح مختلفة من أبناء الشعب التتاري، من العمال إلى أساتذة الجامعة، فالجميع في المجلس متساوين، ذات مرة التقيت بأستاذي السابق في كلية الهندسة البروفيسور المتقاعد، وكان مفاجأة طيبة سررت بها للغاية، ومرة التقيت بعالم تاريخ استفدت كثبرا من أطروحاته.
يدور احيانا حديث بين الحضور بعد اختتام المجلس حول الأحداث وآخر المستجدات عن اوضاع المدينة واهلها، بعضها يكون مملا وبعضها يكون ممتعا، وقد تسمع من البعض اطروحات فلسفية مثيرة، مثل أن إضافة الفواكه المجففة للشاي ليست للمذاق الطيب فحسب، بل هي طريقة تعبير ذات أبعاد رمزية، فمثلا استخدام 'الكوراغا' هو إحياءً لتراث بساتين قازان في القرن السادس عشر، ورفض إذابة السكر في الشاي هو علامة رفض الذوبان الثقافي! والله أعلم
خاتمة
وهكذا وجد التتار طريقهم الخاص للتواصي بالحق والتواصي بالصبر، عبر صيغة 'المجلس'، الذي أصبح بتفاصيله وطقوسه العميقة، أكثر من مجرد مأدبة أو وليمة أو لقاء؛ إنه طقس الصمود، وهو إعلان حي لاستمرارية الهوية التترية، ونسيج متين للتكافل الاجتماعي، وجسر يربط الأجيال بتراثها الروحي والثقافي في مواجهة التهميش والذوبان.
يصنع اجتماع التتار في "المجلس"، حكاية شعب، ويتحول بطقوسه المتوارثة إلى سفر خالد للهوية، ووعاءٍ للروح الجماعية، ومنبرٍ لاستمرار الأمة.
في مشهدٍ أخير، تُغلق الأبواب لكن تظل 'إسَنميسيز؟' تدوي في الآذان: سؤالٌ صاغته أمّةً مسلمة من رماد الطغيان.
IslamNews.Ru وكالة الأنباء
تسجيل الدخول ب:
Ответить
مقال جميل ونافع ومفيد ،،، وكيف الحال ؟ وكيف الصحة ؟ يا استاذ علي ابو عصام
Ответить
توثيق رائع لحالة ساهمت في حفظ الهوية الإسلامية للمسلمين التتار ... هذا المقال أعاد لي الذكريات الجميلة التي عشتها أثناء تواجدي في الاتحاد السوفيتي السابق عندما كنت أزور الجمهوريات الإسلامية والتقي بالمسلمين المحليين وما كنا نشهده من احتفاء بنا وكرم الضيافة كما وصفها الاخ علي في مقاله هذا