تمرُّ في الخاطر ومضاتٌ من الماضي تظهر فجأةً دون مقدمات، مندفعةً بتلقائيةٍ وانسيابٍ؛ حدثٌ عابرٌ يمرُّ بك، أو صورةٌ، أو صوتٌ، أو خبر، فإذا بومضةٍ من الذاكرة تسترجع أحداثًا ظننتَها طُوِيَت في النسيان. يدفعها الحنين لتظهر مجددًا، متشبثةً بحقِّها ومكانها، مُصِرَّةً على البقاء رغم تعاقب الأحداث.
تعيشُ معها لحظاتٍ زمنًا انقضى مع مَن أحببتَهم، تسترجع مواقفَ وذكرياتٍ معهم، تعيشها مجددًا، فيملأك الإحساسُ كأنَّهم معك الآن...
ومضاتُ الذاكرة رائعةٌ، لكنَّ الأروعَ أنها تحكي ماضٍ جميلٍ عِشْتَه دون أن تشعرَ بروعته آنذاك! تتجمع كلُّ الأحاسيس والمشاعر في ومضةٍ لتُظهِرَه أمام ناظريك بأزهى صورة... ومن هنا جاءت هذه الومضات.
جاءت هذه الومضات بعد فترةٍ من الانقطاع الاضطراري بسبب المرض الخبيث الذي داهمني فجأةً دون مقدمات، فأقعدني وشغلني علاجه ومتابعتُه حتى ظننتُ أنَّه لن يُعْتِقَني؛ ولكنَّ اللهَ الكريمَ منَّ عليَّ بجوده وكرمه وواسع رحمته، وبإجابته دعاءَ الأحبَّة والأهل والإخوان، فأكرمني سبحانه بالخروج من هذه المحنة بأقلِّ الأضرار... والحمدُ لله من قبلُ ومن بعدُ.
---
(١)
لاحت لي فرصةٌ للسفر إلى مدينة قازان، عاصمة جمهورية تتارستان في روسيا الاتحادية، فأحببتُ أن أَغْتَنِمَها لما لهذه الجمهورية من مكانةٍ عزيزةٍ في قلبي، ولما لي فيها من ذكرياتٍ، وهي فرصةٌ للقاء مَن تبقَّى من الأصدقاء والإخوة القدامى. فلا يدري المرء ما تصنع به الأيام، والأعمار أقدارٌ مقدرةٌ، لا يدري أحدُنا متى الرحيل.
ولهذه الجمهورية تاريخٌ غنيٌّ عريقٌ؛ فهي أولُ أرضٍ في أقصى الشمال اعتنق شعبُها وحكامُها الإسلامَ طوعًا من تلقاء أنفسهم في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي). ودوَّن ذلك ابنُ فضلان في كتاب رحلته الشهيرة، الذي يحتفي به المسلمون بشدَّةٍ، لكنَّ الروسَ أشدُّ احتفاءً بهذا الكاتب، وهم أكثرُ احترامًا وتقديرًا للكتاب. ولم لا؟ ففيه ورد ذكرُهم صراحة باسم "الروسية"، ويُعَدُّ هذا المرجعُ أحدَ أقدم المدوَّنات التي تذكرهم بهذه الصفة.
وفيه عدَّد ابنُ فضلان صفاتِهم وأحوالَهم وعاداتِهم وتقاليدَهم في الزواج والتجارة وطقوس الموت، ووصف ملابسَهم ومراكبَهم وعبادتَهم وآلهتَهم... إلخ. ولا عجبَ أن كانوا هم مَن اعتنى بنشره وطباعته وإكمال ما نَقَص منه، رغم أن الفصلَ الثالثَ عشرَ ورحلةَ العودة إلى بغداد لا يزالان مفقودَين.
وهذا ما ألهَم مخيِّلات الكتَّاب والمؤرخين لتصوُّر ما جرى بعد أن جاب ابنُ فضلان الشمالَ: فهناك مَن قال إنه وصل إلى السويد، وهناك مَن زعم أن قبيلةً من قبائل الشمال ارتحلت معه بعد أن أسلمت.
حتى إن هوليوودَ صوَّرت فيلمًا سينمائيًّا عن تلك الرحلة الشهيرةتحت اسم المقاتل الثالث عشر.
---
(٢)
شهدت تسعيناتُ القرن الماضي الانهيارَ المؤسفَ للاتحاد السوفيتي، وتشرذمَه إلى جمهورياتٍ قوميةٍ متعددةٍ. أقول "مؤسف" بالنسبة لغالبية دول العالم التي شهدت أسوأَ مراحلها بعد ذلك: من هيمنةٍ أمريكيةٍ مطلقةٍ، وسيادةِ القطب الواحد، التي عانت منها دولٌ وشعوبُ العالم ولا تزال.
وكان ذلك نكبةً كذلك على شعوب الاتحاد السوفيتي ذاتِها، حيث شهدت البلادُ أسوأَ مراحل تاريخها من صراعاتٍ ومواجهاتٍ وحروبٍ ومجازرَ لا تزال آثارُها تتداعى حتى اليوم. ولم يكن ما قاله الرئيس بوتين في إحدى مقابلاته —إن انهيارَ الاتحاد السوفيتي كان أكبرَ كارثةٍ جيوسياسيةٍ في القرن العشرين— إلا تعبيرًا صادقًا نابعًا من ألمٍ عن هذه الحقيقة المُرَّة.
لدى عامة الشعب في روسيا تسمياتٌ مختلفةٌ لفترة التسعينات، لكن التسميةَ الأشهرَ هي "التسعينات اللعينة".. حيث شهدت نموَّ العصابات المنظَّمة وتنافسَها على النهب والسطو والسرقة، بعد عملياتٍ واسعةٍ من خصخصة الأملاك العامة وتقاسم ثروات البلد.
وفي روسيا لا يقولون "خصخصة" بل يتلاعبون بالكلمة لتتحول إلى "نهب". تبع ذلك موجةٌ واسعةٌ من أعمال القتل والعربدة والتصفيات، حتى صارت البلدُ مضربَ المثل في انعدام الأمن وسيطرة المافيا وعصابات الجريمة المنظمة.
كانت قازان إحدى المدن التي انتشرت فيها عصاباتُ الشوارع وأعمالُ الزعرنة والفلتان، التي يتزعَّمها فتيانٌ صغارٌ تركوا مدارسَهم، وغرقوا في عمليات تحصيل الأتاوات وملاحقة مَن يبدو عليه الثراء، والتنافس في السيطرة على الشوارع والأحياء. وما صاحب ذلك من انتشار الدعارة والخمور، ولاحقًا دخلت المخدراتُ؛ حتى باتت هذه العصاباتُ علامةً مميزةً لقازان دونًا عن غيرها من المدن السوفيتية.
وقد صوَّر مؤخرًا مسلسلٌ تلفزيونيٌّ عن هذه الفترة من حياة المدينة يُدعى "وعد الصبي" (أو "عهد الصبي")، أثار جدلًا واسعًا في المجتمع الروسي؛ إذ ذكَّرهم بفترةٍ سوداءَ قاتمةٍ من تاريخهم، ودَوَّا لو نَسُوها. ولكن كما يقول المثل الروسي: "لا يوجد شرٌّ دون خير".
شهدت هذه الفترة تراخيَ قبضة الحزب الشيوعي وتراجعَ تضييقه على الأديان.. وسَمَحَت المناوشاتُ الداخليةُ بهامشٍ من الحرية للمتدينين، ممَّا أذن بانطلاق صحوةٍ دينيةٍ واسعةٍ عمَّت مختلفَ مناطق المسلمين، ومن بينها قازان.
ولستُ هنا أُدَوِّن تاريخًا أو أُوثِّق توثيقًا دقيقًا أو أقوم ببحثٍ علميٍّ منهجيٍّ، لكنِّي أسجِّل دفقاتِ خواطرَ ممَّا يجول في النفس وتفيض به الذاكرة.
وهي حقٌّ لتعريف الناس بفضل أستاذنا وشيخنا الدكتور أحمد توتونجي —حفظه الله— وبصفحاتٍ مخفيةٍ من عطاء هذا الرجل العملاق، ووفاءً لذكرى أخينا الشيخ الشهيد ولي الله يعقوبوف —رحمه الله— وتعرِيفًا بدروه وبعض فضله على العمل الدعوي في تتارستان.
---
(٣)
كانت أولى زياراتي لقازان أواخرَ العام ١٩٨٨، وكانت لا تزال حينذاك مدينةً مغلقةً يُمنَع على الأجانب دخولُها؛ لكثرة المصانع والورش التابعة للمؤسسة العسكرية الصناعية. وكان فيها أربعةُ "آبيلار" (أعمام): قاسم آبي —الذي نزلتُ في ضيافته—، وطلعت آبي، وعبد الحق آبي، ويونس آبي. وكانوا يتولَّوْن تعليمَ الأطفال التتار سرًّا أسسَ الدين، ويستقبلونهم في بيوتهم في العطل الصيفية، ويتولَّوْن تحفيظَهم ما تيسَّر من القرآن، وتعويدَهم الآدابَ والتعاليمَ الإسلامية بالممارسة العملية، في الخفاء بعيدًا عن أعين أجهزة الرقابة السوفيتية آنذاك.
مع وصول غورباتشوف وإعلان "البيريسترويكا" وعمليات ما سمَّاه "إعادة البناء"، وسياسة "الغلاسنوست" (الشفافية والانفتاح) في الإعلام، بدأ بعضُ الشباب رحلةَ البحث عن الذات والعودة إلى الجذور، بعيدًا عن أفكار الحزب الشيوعي وفلسفته المتهاوية. وكان من بينهم الأخ الشهيد —بإذن الله— الشيخ ولي الله يعقوبوف، أو "ولي الله حَضْرات" (حضرة ولي الله) كما يدعو التتار شيوخَهم وعلماءَهم احترامًا وتقديرًا.
و"التتار" لقبٌ جامعٌ أُطلِق في عهد الدولة القيصرية على غالبية المسلمين، ثم ثبت في العهد السوفيتي. وهم مَن نشر الإسلامَ في أَصْقاع الشمال وعلى ضفاف نهر الفولغا وسهوب سيبيريا وكازاخستان.
وكان ذلك يُثِير حَنَقَ سلطات الدولة القيصرية، التي سنَّت في إحدى الفترات قانونًا خاصًّا يمنع التتارَ من دخول السهوب الكازاخية أو الإقامة مع القبائل الرحل التي دخلها الإسلام، ولكن لطبيعة ترحالها وتنقُّلها لم يتعزَّز. فكان هذا دورُ التتار حتى باتت كلمة "تتاري" او "نوغاي" (احدى قبائل التتار) تعني "المعلِّم".
والتتار شعبٌ لطيفٌ في غالبيتهم، وبصفَتِهم المشتركة، يتميَّزون بالعمل الجاد والصبر والتسامح مع الآخرين، وطيب المعشر، وكرمهم وحسن استقبال لضيوفهم، وقد نجحوا بجمعهم نجاحًا باهرًا في الحفاظ على الدين والهوية رغم عنف حملات التنصير القيصرية، وما تلاها من حملاتُ البلاشفة المنهجية.
ولو أن شعبًا غيرهم تعرَّض لما تعرَّضوا له لَتَلاشى واندثر. وكان الدينُ هو سرُّ بقائهم وثباتهم، وباتت كلمة "ملة" بمعنى "الأمة" أو "الشعب" عندهم.
تركت هذه الحملاتُ أثرَها بلا شك، لكنها لم تفنِ الإسلامَ أو تبيده.. وبقي مترسخًا في عادات الشعب وطقوسه، في المناسبات المختلفة —كالزواج وتسمية المواليد الجدد أو ذكريات الوفاة— ينظمون موائد طعام، يسمونها "مجلسًا" يجتمع عليها الأهل والأقارب، والمقربين، ويستدعى دومًا واعظ يعظ ويقرأ القرآنَ ويذكِّر بالله، ولم ينقطع ذلك حتى في أقسى أيام الحكم الشيوعي.
على كل حول عصر التسعينات هذا —إن جاز أن نطلق اسمًا عليه من وجهة نظر الدعوة الإسلامية — فلا يمكن إلا ندعوه عصر النهضة، ورائدُها الشيخ الشهيد ولي الله يعقوبوف.
---
(٤)
الأخ الشيخ الشهيد ولي الله يعقوبوف – وجه المرحلة
نعيش مرورَ الزمن بطرق مختلفة: نعيش تدفقَه الرتيبَ المنتظمَ، ونشعر جميعًا في فترةٍ ما من عمرنا بهذه الرتابة. فإذا التفتنا إلى الماضي، لمحنا زمنًا آخرَ.. ينساب بدَفْقٍ مختلفٍ، يتجاوز رتابة الإيقاع، تراه ومضاتٍ مشرقةً مليئةً بالوجوه والأحداث.
لكلِّ ومضةٍ من التاريخ وجهٌ يميزها، يلوِّن عصرَها، ويعطيه نكهةً ومذاقًا خاصًّا.. تتارستان في التسعينات —بالنسبة لي— هي وجه ولي الله يعقوبوف رحمه الله.
عرفتُ الشيخَ ولي الله أواخرَ الثمانينات عن طريق أحد الشيوخ من تتارستان، الذي أخبرني أنه شابٌّ ألمعيٌّ نشيطٌ في الدعوة في أوساط الشباب، ويوزِّع نشراتٍ دعويةً بين الطلاب في الجامعة. وله قدرةٌ تنظيميةٌ واسعةٌ، ويحتاجون مساعدةً في طباعة النشرات التي يعدُّها. فاتفقنا على أن يحضرَها لنا في موسكو لنتولَّى نحن طباعتها ثم نرسلها إليه. ولظروف تلك الفترة من العهد السوفيتي، فضلتُ ألا نلتقي مباشرةً في هذه المرحلة؛ فقد كان الأخ "فينير" (هكذا كان اسمه وقتها) قائدًا "كومسوموليًّا" (أي من شبيبة الحزب الشيوعي)، وخشينا من الملاحقة إن اُكتشِف أمرُ تواصلنا.
لكن لم يطلِ الوقت حتى التقينا؛ فقد كانت التغييرات في الحياة والمجتمع السوفيتي تجري بوتيرةٍ عاليةٍ سريعةٍ.. أسرع كثيرًا من قدرتنا على استيعابها. كان أول لقاءٍ مباشرٍ بيننا أوائلَ العام ١٩٩٠ —على ما أذكر— في المؤتمر الأول الذي جرى فيه إشهارُ برنامج المركز الشبابي الثقافي "إيمان"، وانتخابُ الأخ ولي الله رئيسًا له. سافَرتُ رفقة الدكتور أحمد قاضي —رحمه الله— رئيس حزب النهضة (الإسلامي) في الاتحاد السوفيتي آنذاك، للمشاركة في المؤتمر والمساهمة في إنجاح فعالياته.. وكانت رحلةً جميلةً رفقة الدكتور أحمد قاضي، لعلِّي أُدَوِّنها فيما بعد إن سنحت الفرصة للكتابة عن الحزب وتأسيسه في العهد السوفيتي.
بعد ذلك اللقاء المباشر، بدأت مرحلةٌ جديدةٌ من العمل، تكررت فيها اللقاءات والزيارات في كلٍّ من موسكو وقازان.
---
(٥)
طباعة الصحف والكتب والنشرات
تمكَّنَّا في ذلك العام —بفضل الله— من توفير آلة طباعةٍ صغيرةٍ وإرسالها إليه، حيث قام بطباعة عشرات الكتيبات والنشرات، وأصدر عدة صحفٍ أسبوعيةٍ تحت اسم "إيمان" باللغة التتارية والروسية ("فيرا")، بل وحتى بالتتارية القديمة بالأحرف العربية. وهذه بالذات كانت مطلوبةً من الأئمة والخطباء وبعض كبار السن؛ حيث كانت تحوي خطبًا أسبوعيةً يستفيدون منها في الإعداد لخطب الجمعة.
وكان لديه نظامُ اشتراكٍ في الصحيفة على الطريقة السوفيتية، وكان يوزِّع نشراتِه وصحفَه على المشتركين بالبريد. وكانت لها (الصحف) شعبيةٌ واسعةٌ في القرى والبلدات التتارية.
كان ولي الله شغوفًا بالتاريخ التتاري، قارئًا نَهْمًا لآثار الأجداد الأفذاذ من العلماء التتار، الذين أحدثوا ثورةً علميةً وفكريةً وأدبيةً في قازان في العهد القيصري؛ فشهد التتار نهضةً علميةً وأدبيةً تحت شعار "التجديد"، بدأت بإصلاح مناهج التعليم والتنوير وتيسير العلم والتدريس متعدد المستويات.
وكان من دَأْبه وعالي همَّته البحثُ عمَّا تبقَّى من كتبٍ قديمةٍ نَجَت من محرقة الإتلاف الشيوعية، والعملُ على إعادة طباعتها ونشر ما يصلح منها. وتمكَّن بهذه الطريقة من إحياء وطباعة مئات الكتب، وكان حريصًا عند طباعتها على أن يكون بمقدور غالبية الناس شراءُها؛ فكان يطبعها على ورق الصحف، وكانت الأغلفةُ من الورق المقوَّى دون تكلفٍ أو بهرجةٍ، ممَّا أتاح للناس تكوينَ مكتباتٍ في منازلهم بتكاليف بسيطةٍ.
---
(٦)
د. توتونجي
كنت قد تعرَّفتُ على الدكتور أحمد توتونجي أواخرَ الثمانينات، حين أردنا شراءَ بيتٍ في داغستان يكون مدرسةً لتعليم الإسلام وتوعية الناس على طريقة تلك الفترة.. ونصحني بعض الإخوةُ في أوروبا بالتواصل مع الدكتور أحمد والكتابة إليه بهذا الشأن؛ فهو لا يتوانى عن دعم هذه المشاريع الدعوية. وبالفعل لم يتأخَّر —جزاه الله كلَّ خير—، وتمَّ شراء البيت. كانت هذه باكورةَ عملنا مع الدكتور أحمد —أطال الله عمره وأكرمه—. ومهما كتبنا فلن نُوفيَه حقَّه بهذه الخواطر، التي أُخصِّصها لتتارستان وولي الله يعقوبوف.
---
(٧)
شقة المقر
كان ولي الله واسعَ الهمة، دؤوبًا لا يكلُّ، يصل الليلَ بالنهار في عمله الدعوي التنويري، غيورًا على شعبه، محبًّا لهم، حريصًا عليهم، فخورًا بتاريخه، مُلِمًّا بتفاصيله وشخصياته.. ورغم دراسته التقنيةَ، إلا أنه توجَّه كذلك نحو الإنسانيات، ودرس علومَ الاجتماع والتاريخ حتى نال شهادةَ الدكتوراه فيها لاحقًا.
وإن تَعْجَبْ فمن ظهورِ مثل هذا الشاب في هذه الفترة الحرجة، التي انغمس فيها نظراؤه من الشباب في طلب المال ومتع الحياة.. أو البحث عن مناصبَ كان بمقدوره الوصولُ إليها بسهولةٍ —وهو القائد الكومسومولي المميز—!
لكن الشيخ ولي الله ركَّز جلَّ اهتمامه على نشر العلم والمعرفة، وإحياء الدين في النفوس، وتوعية الشباب، وبثِّ الروح الوثابة فيهم، وتكريم تراث الأجداد. وكان أولُ مقرٍّ للمركز الشبابي بتمويلٍ من الدكتور أحمد توتونجي كذلك. تمَّ شراء شقةٍ أضحت مركزًا للنشاط كله: كانت مقرًّا وهيئةَ تحريرٍ للصحف والكتيبات، ومركزًا لالتقاء الشباب القادمين من مدن وقرى بعيدةٍ، وتنسيق النشاطات، ومبيتًا مؤقتًا لمن جاء من سفرٍ بعيدٍ. وكان المقرُّ (الشقة) بحقٍّ منارةَ إشعاعٍ وعلمٍ ومعرفةٍ، لا يزال الشبابُ ممن عاصروا تلك الفترة يذكرونها بشوقٍ وحنينٍ.
كان لولي الله قدراتٌ تنظيميةٌ واسعةٌ، وكان يُحسِن إقامةَ العلاقات واستيعابَ الناس، وكان يحظى باحترامٍ وتقديرٍ في مختلف مؤسسات الجمهورية..
---
(٨)
أسبوع الثقافة الإسلامي
حدثته في بداية تعرُّفنا عن برنامج "ثقافي إسلامي" نستضيف فيه دعاةً من الأردن، نطوف بهم بعضَ مناطق المسلمين في القوقاز ونختمه في تتارستان.. فوافق على الفور رغم ضيق الوقت.
نجح البرنامج في المجمل —خاصةً أنه نُظِّم لأول مرة في الاتحاد السوفيتي—، ولكن عند ولي الله في تتارستان كان النجاح مميزًا؛ فقد عقدنا لقاءاتنا في الجامعة بحضور أعدادٍ غفيرةٍ من الطلاب وأساتذة الجامعة، بفضل الاحترام الكبير الذي يحظى به ولي الله. ولم يكتفِ بذلك، بل دعا عددًا من الصحفيين لتغطية المحاضرات، كان من بينهم التلفزيون المحلي. وقد كانت تلك المرةَ الأولى لي التي أظهرُ فيها على شاشة التلفزيون وأتحدث للصحافة المحلية.
المخيم الإسلامي الأول
في صيف ذلك العام، تمَّ ترتيب أول مخيمٍ للشباب في تتارستان.. وكانت تلك تجربةً فريدةً رائعةً، حيث اجتمع لأول مرةٍ هذا العددُ من الشباب في تتارستان لتعلم مبادئ دينهم. وكان الضيوف من شباب الأردن.
وتكررت بعد ذلك المخيمات وتنوعت. وكان لها اثر كبير في تهيئة جيل شبابي جديد.
---
(٩)
البعثات الدراسية إلى الخارج
بعد ذلك، أرسلنا عددًا من الطلاب من تتارستان للدراسة في ماليزيا في الجامعة الإسلامية العالمية لدى الدكتور عبد الحميد أبو سليمان —طيب الله ثراه—. وقد اهتم الدكتور عبد الحميد بهؤلاء الطلاب أيَّما اهتمامٍ، وكان لبعضهم دورٌ كبيرٌ بعد عودتهم؛ حيث كانوا من أوائل الخريجين في الجمهورية المتقنين لعلوم العصر بخلفيةٍ إسلاميةٍ وثقافةٍ واسعةٍ.
في كل عام يعقد في قازان مؤتمر سنوي تحت اسم "مؤتمرُ قازان" ويخصص للتعاون مع دول العالم الإسلامي، نبعت فكرته من هؤلاء الشباب وتولوا أمور تنظيمه وإدارته، حتى نجح وتحول إلى حدث سنوي أساسي في الجمهورية، ثم اهتمت موسكو بالحدث، وتحول لاحقا إلى حدث دولي تحت رعاية إدارة الرئيس التتاري والحكومة الروسية. هذا المؤتمر هو أحد إنجازات طلبة ماليزيا السابقين، ومن إنجازاتهم طرح مسألة الصيرفة الشرعية لأول مرة، في تتارستان —ثم عُمِّمت التجربة لاحقا على البنوك الروسية في مناطق المسلمين— وهي في طور التحديث لتشمل جميع الأراضي الروسية، وما هذا الجهد إلا من ثمرة تلك الرعاية والمتابعة الحثيثة التي تلقَّوها في ماليزيا. وقد كانوا —بحمد الله— موضعَ فخرٍ للجمهورية.
في إحدى الزيارات الرسمية لأحمد داود أوغلو حين كان رئيسَ وزراء تركيا، عرَف أحدَهم، وكان ضمن الوفد الرسمي لتتارستان وسُرَّ جدًّا لذلك؛ فقد كان مدرسًا لهم في الجامعة الإسلامية في ماليزيا.
وفي حفل استقبالٍ آخر، التقوا مع مهاتير محمد حين زار قازان، وسُرَّ جدًّا بلقائهم.
ولاحقًا تم إرسال بعض بعضَ الطلبة إلى الأردن ولكن لدوراتٍ علميةٍ دعويةٍ سريعةٍ.
---
(١٠)
رحلة الحج
عام ١٩٩٠، مع سَماح السلطات السوفيتية أواخرَ عهد غورباتشوف برفع القيود عن سفر المسلمين في الاتحاد السوفيتي لأداء مناسك الحج، هبَّ الآلافُ من المسلمين لاغتنام الفرصة وتلبية النداء الخالد عبر الأزمان. صحيحٌ أن السلطات سمحت بالسفر للحج، لكنها لم تنظِّم خطوطَ طيرانٍ تستوعب آلافَ الراغبين، وتركت الأمرَ لمبادراتٍ فرديةٍ والتنظيم الذاتي للمسلمين.. وكانت تلك مشكلةً للعموم.
اتفقتُ مع الأخ ولي الله للسفر للحج، وكانت تلك أولَ مرةٍ لي وله. وصحبتني أمُّ زوجتي كذلك؛ فقد أصرَّت أن تكون من أوائل مَن يسافر للحج. سافرنا أولًا إلى طشقند، حيث كانت تنطلق منها رحلةٌ أسبوعيةٌ إلى جدة. وبعد يومين شاقَّين من محاولات شراء تذاكرٍ —وبمساعدة إخوةٍ كرامٍ من الأوزبك، منهم الأخ عبد الله الذي كانوا يدعونه "الصغير" تمييزًا له عن الأخ عبد الله أوتَه زعيم حزب النهضة الإسلامي في أوزبكستان رحمه الله— باءت كلُّ محاولاتنا بالفشل، وأدركتُ أننا نضيع الوقت، ولن نصل لشيء. وصرتُ على قناعةٍ باستحالة شراء تذاكرَ من طشقند؛ فالمقاعد كلها مباعةٌ، وهناك آلافٌ آخرون راغبون في تأدية مناسك الحج لأول مرة.
في هذا الوقت أحد الإخوة من داغستان (من الدَّرْغين) تمكَّن من الحصول على رخصةٍ لتنظيم رحلاتٍ مباشرةٍ إلى جدة، واستأجر أربع طائراتٍ لهذا الغرض، تُقلع مباشرةً من محج قلعة إلى جدة لأول مرة.
فهرعنا إلى محج قلعة مع ولي الله وأمِّ زوجتي وأخٍ تونسيٍّ من شباب طشقند لم يتمكَّن هو الآخر من شراء تذكرةٍ إلى جدة.. وبصعوبةٍ تمكَّنَّا من حجز مقاعدٍ على إحدى الرحلات. وكان أغلبُ الحجاج على متنها من جمهورية الشيشان المجاورة. وكانت مناسبةً طيبةً لأن أرى بنفسي —لأول مرةٍ— وأشهد أثرَ التدين الصوفي على الناس، وطقوسَ الذكر النقشبندي المميزة لدى الشيشان.. وحلقات الذكر التي ينتظمون فيها في دوائر وحلقات…
لدى وصولنا جدة، كانت المفاجأة السارة؛ حيث أعلنت السلطات السعودية أن جميع حجاج بيت الله الحرام من الاتحاد السوفيتي في ذلك العام سيكونون ضيوفًا على خادم الحرمين الشريفين.. بلغ عدد الحجاج لأول مرةٍ ذلك العام حوالي اثني عشر ألفًا.
وسبحان مبدِّل الأحوال! قبلها بعامٍ —على ما أذكر— لم يتجاوز عدد الحجاج أصابع اليد، وقد حاول بعض راغبي الحج من داغستان الاحتجاجَ في موسكو بسبب منعهم من السقر لأداء شعيرة الحج.. تعلَّلت السلطات وقتها بعدم القدرة على توفير العملة الصعبة لأعدادٍ كبيرةٍ؛ إذ لم يكن وقتها متاحًا شراءُ العملة الصعبة رسميًّا إلا عبر البنك التجاري وفق التسعيرة الرسمية، التي تختلف اختلافًا كبيرًا عن السوق السوداء.
أذكر أني التقيتُ بهؤلاء المحتجين في مسجد موسكو، وتحدثتُ معهم وحثثتُهم على عدم الركون والاستسلام لهذا الأمر، أو القبول بهذه الحجة؛ فقبل أيامٍ سمحت السلطات لمشجعي فريق كرة قدمٍ روسيٍّ بالسفر إلى أوروبا بالعشرات لتشجيع فريقهم، فلماذا يجدون المالَ الكافي لمشجعي فريقٍ رياضيٍ، ويحجمون حين يتعلق الأمر بمتطلبٍ أساسيٍّ من تعاليم ديننا؟! وقد أخبرني أحد هؤلاء الإخوة لاحقًا أنه ذُهِل من جرأتي في هذه الكلمة المرتجلة في المسجد، خاصةً أنها تأتي من شابٍّ أجنبيٍّ.. على كل، أنا نفسي كنت مندهشًا من تصرفي بهذا الشكل ونقدي العلني!
على كلٍّ، وعدَ المسؤولون بعد هذا الاحتجاج بفتح باب الحج العام المقبل، وقد كان —بحمد الله وفضله—.
مما علِق في ذاكرتي أن الأخ ولي الله حين وصلنا مكة ورأى جموعَ المسلمين علَّق قائلًا: "إنه لأمرٌ مدهشٌ أن ترى هذه الجموعَ الغفيرة بهذه الأعداد الكثيفة وتدرك أن كلَّ مَن تراه هنا مسلم!"
---
(١١)
سجل الفخر
كثيرةٌ هي إنجازاتُ وأعمال ولي الله حَضْرة، ربما تحتاج مجلداتٍ لذكرها. ولستُ هنا أحاول جمعَها، وإنما هي صورٌ تتداعى من الذاكرة، وكلُّ صورةٍ تستجلب أخرى، وكما سبق وذكرتُ، لم نكن وقتها ندرك تاريخيةَ اللحظات التي نعيشها.. ننطلق بكلِّ ما فينا من عنفوان الشباب دون التفاتٍ لأي عواقبَ، متوكلين على الله.. يحدونا الأملُ بنيل رضاه.. نسأله جلَّ شأنه ألا يضيع الأجر.
من بين كثيرٍ من الإنجازات، كانت هناك أعمالٌ مفصليةٌ شكَّلت علاماتٍ فارقةً في تاريخ تتارستان والنهضة الإسلامية فيها.. وكان لولي الله نصيبُ الأسد منها.
وعلى ذكر "النهضة"، فقد كان ولي الله يتجنب المصطلحَ الشائعَ بالروسية «Возрождение» (النهضة/الولادة الجديدة) ولا يحبُّه؛ وذلك لأنه مشتقٌّ من جذرٍ يعني "الولادة"، وهو كان يفضِّل كلمة "إحياء"؛ لأن الإسلام برأيه لا يولد من جديدٍ، فقد ولد واكتمل بمبعث النبي محمد عليه الصلاة والسلام. وكان ذلك هو المصطلح المناسب برأيه، وأحيانًا يستخدم مصطلحًا مشتقًّا من الإنجليزية "revival".
الإحياء
كيفية إحياء تعاليمه وإحياء الانتماء إليه لدى الأمة التتارية لم تفارق مخيلتَه يومًا، وكان يعتبر أن الأمة التتارية حافظت على جوهر الدين وإن غاب كثيرٌ من شعائره العلنية بسبب الضغط والإكراه.
في بداية إشهار مركز "إيمان" الشبابي الثقافي، سألته صحفيةٌ: ما الذي دفعه للعودة إلى الإسلام وهو قائدٌ له وضعه في الشبيبة الشيوعية (الكومسومول)؟ فأجاب ببساطةٍ: "إنه لم يَعُدْ إلى الإسلام؛ لأنه أصلاً لم يغادره".
كان ولي الله يستحضر ماضي التتار ليستلهم العبر لحاضره ومستقبله، وقد رأى أن العامل الأساسي في التغيير وإحياء تعاليم الإسلام إنما يكمن في التعليم، في المنهج السليم لتلقِّي العلوم الذي يجمع بين علوم الدين والدنيا. وكان كثيرُ التأمُّل بتجربة العالم العلاَّمة (عالم جان بارودي) أواخر القرن التاسع عشر.. الذي وضع نصب عينيه نشرَ العلم وتدريسَ الطلبة في قازان، ونشرَ ووضع العديدَ من الكتب لهذا الغرض.
---
(١٢)
مدرسة "المحمدية"
كان أحدُ أكبر إنجازات الأخ ولي الله هو إحياء مدرسة "المحمدية" في قازان. وقد كانت بداية ذلك قصةً طريفةً، من الجميل أن تُروى:
بداية التسعينات، جاءنا إخوةٌ من السعودية لديهم برامجُ لافتتاح مدارس إسلاميةٍ، وسألوني عن المنطقة التي أقترحها لمثل هذا البرنامج في الاتحاد السوفيتي. فاقترحتُ عليهم قازان للحاجة الماسة فيها للمدارس؛ ففي آسيا الوسطى هناك نظامُ "الحجرات" والعديد من العلماء، وفي القوقاز كذلك وإن كان بدرجةٍ أقلَّ من آسيا الوسطى.
لذا رشحتُ لهم بكل ثقة قازان. سافر الإخوة إلى قازان والتقوا بالأخ ولي الله، الذي كان قد جهز بعضَ الأماكن لمعاينتها، والبدء بتنفيذ مثل هذا البرنامج.
ولكن كلَّ ما اقترحه عليهم الأخ ولي الله لم يوافق ما كان في تصوُّرهم، وعادوا دون أن يحققوا شيئًا، وسافروا إلى مناطق أخرى علَّهم يجدون بغيتَهم.
بقيت الفكرة عالقةً في ذهني بعد أن غادروا، وفي أول لقاءٍ مع الأخ ولي الله، قلتُ له: "إن الفكرةَ التي جاء بها السعوديون أعجبتني، حتى وإن لم توافق طبيعةُ الأمكنة المقترحة ما في تصوُّر إخواننا الضيوف. وسأعرضها على الدكتور أحمد حفظه الله؛ فإن وافق مضَيْنا بها".
من طبيعة الدكتور أحمد —لمن يعرفه— أنه إيجابيٌّ للغاية، ويشجِّع كلَّ المبادرات والمشاريع التي لها طبيعةٌ علميةٌ أو تعليميةٌ دعويةٌ، ويعتبرها استثمارًا في المستقبل؛ فوافق دون ترددٍ (ولم يكن عندي شكٌّ بذلك)، وأُعتمدت ميزانيةٌ للمدرسة تشمل رواتبَ المدرسين وإيجارَ المكان..
وهكذا انطلقت الفكرة، وافتُتحت المدرسة تحت اسم "المحمدية". وقد كنتُ في البداية غيرَ مرتاحٍ للتسمية؛ كوننا لا ننسب إلى النبي الهادي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بل إلى الدين الذي بُعث به رحمةً للعالمين.
ولكن الأخ ولي الله كان له رأيٌ آخر؛ فقد اقتبس الاسمَ من تاريخ قازان قبل الثورة، حيث كان فيها مدرسةٌ تحمل هذا الاسم أنشأها الإمام العلامة "عالم جان (غاليمجان) بارودي" (غالييف) —وهو أحد العلماء الأفذاذ الذين كان لهم أثرٌ كبيرٌ في النهضة التترية أواخر القرن التاسع عشر—. وقد اختار لمدرسته اسم "المحمدية" نسبةً وتكريمًا لوالده محمدجان غالييف. ومن مدرسته "المحمدية" تلك تخرَّج آنذاك نخبةُ الشعب التتاري من العلماء والشعراء والمفكرين.
وكانت فكرةُ ولي الله تجسيدا لرأيه في الإحياء "نحن لا نبدأ من جديد، بل نعيد ما كان ونواصل ونجدد".
وهكذا افتُتحت أولُ مدرسةٍ دعويةٍ في قازان، وكان أولُ المدرسين فيها أخوان كريمان
من خيار الشباب من فلسطين والأردن، كان لهما —بعد الله— الفضلُ الكبير في نجاح المدرسة ودوام واستمرار التدريس فيها..
وأحدهما لا يزال مرابطًا على ثَغْره فيها إلى يومنا هذا، يواصل رسالته بحبٍّ وأمانةٍ وإخلاصٍ، وله شعبيةٌ عظيمةٌ ومحبةٌ كبيرةٌ لدى الناس هناك.
افتُتحت المدرسة بدايةً في منتجعٍ يحمل اسم "لينين".. تم استئجار عدة غرفٍ من المنتجع لهذا الغرض.
وعلَّق أحد الإخوة —من صحب ولي الله— قائلًا: "سبحان الله! هذه رسالةٌ رمزيةٌ تحمل العديدَ من المعاني، فليس صدفةً أن قدَّر الله أن تُفتتح المدرسة في منتجعٍ يحمل اسم الرجل الذي تسببت ثورته في إغلاق المدرسة!".
استعادة مبنى المحمدية
بعد طول نضالٍ وكفاحٍ، وبعد محاولاتٍ عديدةٍ، اضطرت السلطات الرسمية إلى الاستجابة لطلبات المسلميين وأعادت قسما من المبنى السابق الذي كان للمدرسة المحمدية قبل الثورة —وهو مبنى كبيرٌ مهيبٌ يقع وسط المدينة—.
ثم أُعيد باقي المبنى تدريجيًّا، وأُعيدت معه بعضُ الأوقاف التي كانت للمسلمين أيام العالم بارودي.
حين تسترجع ما حدث، ترى أنها كانت خطوةً مباركةً بعيدةَ النظر، وفق الله إليها الأخ ولي الله.. فقد أعيد المبنى له كونه سجل مدرسته بهذا الاسم..
تعرَّفت بعد ذلك على العديد من الأئمة والشباب الذين تخرَّجوا من هذه المدرسة، وكان لهم دورٌ مهمٌّ في مواصلة رسالتها.. منهم إمام مسجد "غول شريف" الجميل في كريملين قازان.
ميزة الأخ ولي الله أنه جمع القدرةَ التنظيميةَ الإداريةَ والتخصصَ بعلوم الدنيا مع الإلمام الواسع بالعلم الشرعي.. ممَّا مكَّنه من تجنُّب الصدام مع السلطات أو إثارتها أو استفزازها —كما فعل العديد من الشباب— لدى محاولة استرجاع مبنى المدرسة.
وهكذا تمكَّن من الحصول على اعترافٍ رسميٍّ بالمدرسة، واعتماد تسجيلها، واعتماد منهجها وسميا كمرحلة إعدادية لأصحاب التخصص الشرعي تسبق المرحلة الجامعية.
وكانت خطته بعد ذلك اعتمادَ منهجٍ لجامعةٍ إسلاميةٍ عصريةٍ، ثم أكاديميةٍ إسلاميةٍ علميةٍ عليا ..
وهذا كلُّه تحقق في تتارستان وإن لاحقًا.. وكانت الخطوةُ الأولى في هذه المسيرة المباركة هي تلك المدرسة البسيطة في غرفٍ مستأجرةٍ من منتجع لينين في قازان.
---
(١٣)
التشابه الملفت بين شخصيتين وزمنين:
دوَّن ولي الله تجربةَ مدرسة "المحمدية" المجدَّدة في مقالٍ طويلٍ، طوَّره لاحقًا إلى كتابٍ سمَّاه: "مدرسة المحمدية: استمرارية التقاليد"، نُشِر عام ٢٠٠٨.
ثم أعدَّ بحثًا شاملاً عن التعليم الديني في تتارستان؛ كان قد فرغ منه وأعدَّه للنشر، لكنه صدر بعد استشهاده عام ٢٠١٢ تحت اسم "التعليم الإسلامي في تتارستان". أشار فيه إلى الصلة والرابط الخفي في مجال التعليم الديني بين الماضي والحاضر، وقدم مقارنةً لطيفةً حول فترة التسعينات في القرنين التاسع عشر والعشرين —التي يفصل بينهما قرنٌ من الزمان—؛ مشيرًا إلى تشابهِ الوضعَ الاجتماعيَّ والسياسيَّ للبلاد في الحالتين، ومحللا الوضعَ الروحيَّ للشعب التتري في الزمنين.
في عام ١٨٩١، سعى "عالم جان بارودي" لإعداد نخبةٍ جديدةٍ للشعب التتاري من خلال تحسين وتطوير منظومة التعليم؛ فقام بوضع منهجٍ دراسيٍّ فعَّالٍ، وتأليف ونشر الكتب المدرسية مصحوبةً بوسائل تعليميةٍ خاصةٍ، وتدريب وتكوين هيئةٍ تدريسيةٍ فعَّالةٍ… وطبق برنامجه هذا في "المحمدية"، وتخرَّج من مدرسته تلك نخبةُ المجتمع من علماء وأدباء وشعراء ومفكرين.
في عام ١٩٩١، وبعد قرنٍ من الزمان، قام ولي الله باتباع الخطوات ذاتها، التي قام بها عالم "جان بارودي" لتجديد نخبة مؤمنة للشعب التتاري مسلحة بالعلم والإيمان، عبر إحياء.. مدرسة تحمل اسم "المحمدية".
هل جاء ذلك من قبيل المصادفة؟ لا أعتقد؛ فلا شيء يجري مصادفةً! ولكنها الإرادة والإصرار والمثابرة، مصحوبة بالوعي والإخلاص والإيمان العميق بالفكرة، تحقق المراد ويستجيب القدر..
وفي هذا تجد الكثيرَ من القواسم المشتركة وتشابهًا ملفتًا بين شخصيتي غاليمجان (عالم جان) بارودي وولي الله يعقوبوف، على الرغم من أنهما عاشا في عصرين مختلفين.
الرجلان نذرا نفسيهما خدمةً للدين الحنيف، وكانا خادمَين مخلصَين للعلم، مدافعين عن الدين، حَمَلا شعلتَه بيدٍ ثابتةٍ ورفعاها عاليًا، ساعيين لتكوين نخبةٍ فعالةٍ، وانشغلا بالعمل البناء والبعد عن الاستعراض وهدر الوقت فيما لا طائل من ورائه.. وكانت حياتاهما تجسيدًا لهذه الفكرة التي آمنا وعملا من أجلها.
---
(١٤)
أواسط التسعينات
انقطع تواصلي المباشر مع الأخ ولي الله، حتى العام ١٩٩٧ حين جاء إلى باكو ضمن وفدٍ للمشاركة في مؤتمرٍ علميٍّ. وهناك التقينا مجددًا.. وسمعت منه عن استعادة مبنى المحمدية.
ولي الله نائبًا للمفتي
في مؤتمرٍ نظمته السلطات في تتارستان —بعد أن استشعرت مخاطر الفوضى المنتشرة في المجال الديني، مع غياب مرجعيةٍ دينيةٍ موحدةٍ— سعت السلطات لتوحيد الهيئات الدينية بمؤسسةٍ واحدةٍ جامعةٍ تمثل المسلمين لديها.. في ذلك المؤتمر التوحيدي، انتُخب ولي الله نائبًا للمفتي، مسؤولًا عن التواصل والتنسيق مع المؤسسات الرسمية والحكومية.
وهذا مكَّنه —رحمه الله— من العمل الفعال لاستعادة الكثير من الأوقاف الإسلامية التي كانت الدولة السوفيتية قد استولت عليها وأمَّمتها أو حوَّلتها لأغراضٍ أخرى غير تلك التي بُنيت من أجلها.
ويسر ذلك وجود قيادة حكيمة في البلاد على رأسها شخصيةٍ وازنةٍ لها ثقلُها ونفوذُها في الجمهورية، وهو الرئيس "مينتيمير شايمييف" الذي لعب دورًا مهمًّا في تجنيب تتارستان ويلات الحرب في المواجهة مع المركز إبان حكم يلتسين.. علما أن عبارة يلتسين الشهيرة التي دعى فيها الجمهوريات إلى أن "يأخذوا من السيادة قدر ما يستطيعون" قد قيلت في قازان بالذات!
لم يستدرج شايميف بحمد الله لفخ المواجهة الذي وقع فيه —للأسف— آخرون في شمال القوقاز، وبذا حقن دماءَ الشعب من أن تُراق على مذبح فئةٍ مغرضةٍ ذات ارتباطاتٍ خارجيةٍ كما هو واضح الآن.
في بداية عمله في منصبه الجديد، حرص ولي الله على وضع خطةٍ واضحةٍ والعمل بمنهجيةٍ.. أهم بنودها العملية الدعوية والتعليمية.. والجامعة الإسلامية ومن ثم الأكاديمية..
إعادة الأوقاف
وقد درس تجربةَ العديد من الدول، وسافر إلى تركيا لهذا الغرض، والتحق بدوراتٍ إداريةٍ في أكاديمية الإدارة التابعة للرئاسة الروسية —التي تُعِدُّ وتدرِّب الكوادر الحكومية—. بعد ذلك، وضع الأساسَ أو الأرضيةَ التي سيتم وفقها استعادةُ الأوقاف المصادرة من الدولة، وآليةُ تمويل الدولة لتأهيل الأوقاف المسترجعة —سواء تلك التابعة للمسلمين أو للطوائف النصرانية—. كان منها مسجد ومدرسة "أباناي".
في العام ١٩٩٨، التقينا مجددًا في قازان —هذه المرة في مبنى المدرسة المحمدية المجدَّد—.
---
(١٥)
استعادة مسجد أبانايف
كان حلمُ ولي الله الذي لا يفارقه منذ العام 1990 هو استعادة وترميم مسجد "أبانايف"؛ فهو ثاني مسجدٍ حجريٍّ شُيِّد في العهد القيصري، وأقيم وقتها على أنقاض مسجدٍ قديمٍ كان قد هُدِم إبان احتلال المدينة بداية عهد القياصرة..
ثم في فترة التسامح الديني زمن القيصرة يكاترينا الثانية، سُمِح للنبلاء التتار ببناء مساجدَ لعبادتهم من الخشب فقط. لاحقا تم السماح ببناء مسجدين حجريَّين في قازان، كان هذا المسجدُ ثانيهما (المسجد الأول هو مسجد مرجاني)..
بالتالي كان لهذا المسجد رمزيةٌ معينةٌ كشاهدٍ على العصور: دمارٌ فتشييدٌ، فدمارٌ ومصادرةٌ ثم إهمال.. فكان لا بد من قيامٍ!
كان حلم ولي الله أن يعيده مسجدًا يُرفع فيه الآذان ويُذكر فيه اسم الله، وكان ذلك يتطلب استخلاصَه أولًا من الدولة، ثم السماح بإجراء التصليحات والترميمات المطلوبة، مع الحفاظ على وضعه كمكان أثري يحظى برعاية ودعم الدولة، ومن ثم افتتاحه لأداء الصلوات.. كانت هذه معركةً بيروقراطيةً طويلةً وشاقة..
مبنى المسجد قبل ترميمه كان في وضعيةٍ مزريةٍ للغاية؛ فقد عانى من الإهمال فترةً طويلةً، وكان قد قُسِّم إلى غرفٍ وحُوِّل إلى روضةٍ للأطفال في العهد السوفيتي. فأضحت معركةُ إعادته وإحيائه من جديد مشروعَ حياةٍ بالنسبة لولي الله. وقد تمكن من ذلك بعون الله، بعد صبرٍ ومثابرةٍ ودأبٍ وعملٍ متواصلٍ..
استرجاع المسجد وترميمُه وافتتاحُه كان مصدرَ سعادة ولي الله وموضعَ فخره، وكان يعتزُّ كثيرًا بلقب "إمام وخطيب مسجد أباناي"، ويفرح لذلك.
ومن هذا المسجد تم تشييعُه إلى مثواه الأخير بحضورٍ رسميٍّ وشعبيٍّ كبيرٍ.
يتبع للمسجد مدرسةٌ تقع في مبنى قريبٍ منفصلٍ، في نفس الشارع، في "قصبة قازان" القديمة المسماة "تتارسكايا سلوبودا" —وهي الحي الذي سُمِح للتتار بالإقامة فيه بعد سقوط دولتهم—. لاحقًا تم استرجاع مبنى المدرسة كذلك، واعتمدت لتدريس وتحفيظ القرآن الكريم، وعقد الدورات والندوات، وتدريس الأئمة والخطباء. وقد فاز بعض خريجيها مؤخرًا في إحدى المسابقات العالمية للقرآن الكريم.
حاليا، يُعَدُّ المسجد والمدرسة تحفة معمارية، وأحد معالم قازان المحمية بقانون حفظ الآثار والتراث.
---
(١٦)
الشهادة مسك الختام
في عمليةٍ غير مسبوقةٍ وغير مفهومة الدوافع، ولأول مرةٍ في تاريخ تتارستان، فتح شخصٌ مجهولٌ النارَ على ولي الله صباحَ ١٩ تموز/يوليو ٢٠١٢ لدى خروجه من منزله متوجهًا إلى عمله في الإدارة الدينية، وأصابه بعدة رصاصات. رغم ذلك تمكَّن ولي الله من الوصول إلى السيارة، فيما لم يتمكَّن سائقُه من إسعافه. وتوفي على مقعد السيارة في انتظار وصول الإسعاف.
وفي الوقت ذاته، في موضع آخر من المدينة فجَّر مجهولون سيارةَ المفتي الذي أصيب إصابةً طفيفةً جراء التفجير.. وكان قد توقف وغادر السيارة، وقيل أنه تلقى اتصالا لمغادرة السيارة بسرعة، قبل تفجيرها..
اتهمت السلطات جهةً مجهولةً —قيل إن اسمها "مجاهدو تتارستان"!— وحمَّلوا جماعةَ سلفية متشددة في مدينة "تشيستابول" المسؤوليةَ عن استهداف الشخصيتين الرئيسيتين في الإدارة الدينية بالجمهورية.
كان ولي الله ضمن عمله في الإدارة الدينية قد رفض التشددَ السلفي، وخاض مواجهاتٍ مع أتباعه، موضحًا أن تيارَهم لا يناسب طبيعةَ الشعب والبلاد، وأن التدينَ الوسطيَّ دون تشددٍ أو تزمتٍ هو الأنسب في التعليم والتدريس والدعوة بين الناس..
أشارت سلطات التحقيق إلى هذه المسألة بالذات في تقديرها لأسباب استهداف مسؤولي الإدارة الدينية..
لا يمكن القول إن الصورة واضحةٌ؛ فلا تزال الدوافع غير مؤكدةٍ، خاصةً بعد مقتلَ المشتبهين الاثنين في هذه القضية لاحقًا.
استنكرت السلطات المركزية في موسكو استهداف ممثلي الإدارة الدينية ومحاولةَ زرع الفتنة في تتارستان، وأصدر الرئيس بوتين قرارَه بتكريم المفتي ونائبه الراحل بوسام الشرف على خدماتهما للمجتمع.. ولكن الوسام الحقيقي كان في قلوب الأصدقاء والمحبين.
في كل عامٍ، في ١٩ من تموز/يوليو في ذكراه السنوية، يقوم أصدقاء ولي الله ومحبوه ورواد مسجد أبانايف بزيارة قبره والدعاء له؛ ثم يعقدون مجلسًا علميًّا يتدارسون فيه بعضًا مما يهم المسلمين في المنطقة. وهكذا تتولَّد الأفكار وتتجدد الهمم.. وتشمر الزنود لمواصلة المسير.
قراءات يعقوبوف
بعد رحيله، نظَّمت مراكز الأبحاث وأكاديمية العلوم برنامجًا سنويًّا لبحث أفكار ومشاريع وتطلعات ولي الله، ودراسة ما يمكن أن يخدم الأمة والمجتمع تحت اسم "قراءات يعقوبوف" —علما أن هذه عادةٌ دارجةٌ في روسيا مع المفكرين والعلماء بعد رحيلهم—.
---
(17)
لمسة وفاء
هذه بعض الذكريات والخواطر التي تداعت إلى ذهني بعد زيارة قازان.
أدوِّنها وفاءً لذكرى أخٍ كريمٍ، خدم الإسلامَ، وعمل بهمةٍ ونشاطٍ، ولم يركن إلى الدعة، وشمر عن ساعد الجد، وحقق لأمتنا وديننا الكثير.. وفي ذلك بعضُ وفاءِ واجبٍ له ولأستاذنا ورائدنا في هذه المسيرة الذي تعلمنا منه الكثير: الشيخ الدكتور أحمد توتونجي.
---
17)
خاتمة تليق بهذا الفارس
تقبل الله عمله ونفع به، وجعلها صدقةً جاريةً عن روحه. وإن تَعْجَبْ فمن حجم الإنجاز الذي أجراه الله على يديه في هذا العمر القصير: مركز شبابي، دار نشر، صحف ومجلات، كتب وأبحاث، مساجد وأوقاف، مدارس وبيوت علم، وسيرةٌ طيبةٌ عطرةٌ كل هذا ولم يتم الستين.
رحمه الله.
IslamNews.Ru وكالة الأنباء
تسجيل الدخول ب: