مشاهدات عربي في بلاد التتار
على الطريق بين موسكو وقازان تقع محافظة نيجني نوفغورود، حيث يلتقي نهرا الفولغا وأوكا، نيجني تعني "التحتا"، للتفريق بينها وبين مدينة نوفغورود التي كانت مهد أول إمارة روسية في عهد الأمير الفايكنجي روريك.
في شرق المحافظة تقع احدى أكبر تجمعات قرى التتار في روسيا، حُفَّاظ شعلة الإسلام بعد قرنٍ من الاستهداف، حوالي (34) قرية متبقية من أصل 60 منتشرة في السابق.
الغالبية العظمى من تتار موسكو حاليا ينحدرون من تتار هذه المنطقة بالذات.
السكان التتار في المنطقة يسمون التتار الـميشار، (اسم 'ميشار' (Meshcher أو Mishar)، وهو مصطلح يُعتقد أنه مشتق من اسم قبيلة 'ميشيرا' الفنلندية-الأوغرية القديمة التي استوطنت المنطقة قديما، أو لعله مشتق من منطقة 'ميشيرا' التاريخية) ولهم لهجة خاصة بهم يعرفون بها، وهم وتتار قازان يتندرون على لكنات بعضهما البعض ..
رغم غياب نظريةٍ حاسمة عن أصولهم، يُجمع باحثون على أن الميشار ثمرة تمازجٍ بين: مجموعات الميشيرا، والقبائل التركوية من بولغار قازان، وتتار القبيلة الذهبية (ألتن أوردا)، وهذا التنوع العرقي يَظهر في سحناتهم: من شقرٍ زُرق العيون، إلى سمرٍ ذوي ملامح آسيوية."
القبيلة الذهبية امتد نفوذها ليشمل أغلب أراضي روسيا وأوروبا الشرقية حتى المجر، وكان مقر حكمها في مدينة ساري (ساراتوف الحالية) في حوض الفولغا، تمزقت بعد فترة من السيادة والهيمنة إلى أربع خانيات كبرى، خانية القرم، خانية أستراخان، خانية قازان، خانية سيبيريا في توبولسك قرب تيومين.
كانت كامل منطقة نيجني نوفغورود تعتبر منطقة فاصلة بين خانية قازان وإمارة موسكو، حتى وقع الشقاق بين التتار، وتحالفت قبائل قاسيموف التترية مع إمارة موسكو، وتمكن في المحصلة أمير موسكو إيوان الرابع الرهيب من احتلال قازان وتدمير امارتها وتشريد سكانها عام 1552م..وانفتحت أمام إمارة موسكو آفاق حوض الفولغا بعد ان كانت مغلقة في وجههم.
وخلال هذه التحولات الجيوسياسية، تأسست قرى المنطقة مثل ريبوشكينو عام 1554م – وصفاجاي 1451م، وهذا من الشواهد الحية على استمرارية الوجود التتري رغم تقلب الأوضاع.
قرية ريبوشكينو في المحافظة التي تعتبر واحدة من اقدم قرى المنطقة، يشير باحث تتري (أخماروف) دوّن شهادات كبار السن من سكانها أواخر القرن التاسع عشر، أن أهلها يعتبرون أنفسهم من أحفاد بولغار قازان.
في بحثه القيم ذاك أشار ان ما يجمع التتار الميشار ليس العرق او القومية بل الدين..
وهذا استنتاج مهم للغاية، فهذا البعد أي عامل الدين هو من سمات الشخصية التتارية عموما، والتتار الميشار خصوصا.
فرغم انشغال أهالي تلك القرى بالزراعة وأعمال الفلاحة، إلا انهم اولوا اهتماما كبيرا للمساجد والتعليم، فحتى قيام الثورة كان في كل قرية مسجد ومكتبا (مدرسة لتعليم الدين). وكان في كل قرية ملا او إمام ومعلم.
مع قيام الثورة البلشفية التي ربما خلصت البلاد من استبداد نظام الحكم القيصري، إلا انها كانت سببا لمحنة كبيرة لقرى التتار في محافظة نيجني نوفغورود..
عقب الثورة، اندلعت حرب أهلية، وسيق عشرات من أبناء القرى للقتال ضد الجيش الأبيض، من أبدى احتجاجاً او عارض لوحق أو قتل. صفي العشرات من أبناء المنطقة.
الاحتجاجات افضت إلى إلى أول مذبحة منظمة قرب قرية باشاتوفو عام 1919م، ومنع الأهالي من زيارة المكان الذي دفن فيه الضحايا، وسوي مكانه بالأرض في محاولة لإخفاء آثار الجريمة المروعة.
في الحقل بين قريتي سيميونوفكا وباشاتوفو على مقربة من الطريق العام يقوم الآن نصب تذكاري على هيئة قبة مسجد ومنارة، مع تسييج للبقعة التي دفن بها اوائل ضحايا العنف الأحمر، أقامه الأهالي على نفقتهم الخاصة بمجرد ان انهار الحزب الشيوعي تأكيدا امقولة ألا أحد ولا شيئ ينسى.
في تلك الفترة الصعبة تعرضت المساجد للحرق او حولت إلى مخازن لجمع الغلال، حورب الائمة، ومعلمو الدين، وتم تصفية أغلبهم. جمعت المصاحف والكتب واحرقت، ومنع الناس من استخدام أبجدية الآباء والأجداد واستبدلت الأحرف التتارية القديمة من العربية إلى الكيريلية الروسية ( في المعلومات المتداولة أن البلاشفة قاموا بذلك حذوًا بتجربة أتاتورك، في الانتقال إلى الحرف اللاتيني)، وتوعدت السلطات بالعذاب الشديد لمن يحتفظ بمصحف أو كتب قديمة.
من وجد عنده كتاب اما تخلص منه او أخفاه، تعليم الأطفال القران والدين، اصبح بالخفاء، وخلف حجب وأبواب مغلقة، وحل عهد من الرعب والارهاب في الثلاثينات، استمر بقسوته تلك حتى اندلاع الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية) حيث عمد ستالين على التخفيف من إجراءات مناهضة الدين وافتتح الإدارات الدينية، حرصا على توظيف عامل الدين في استنهاض السكان لمحاربة الغزو النازي.
اول زيارة لي للمنطقة كانت ربيع العام 1988, عبر قطار عابر، يتوقف في محطة سيرغاتش لمدة دقيقتين فقط.
اذكر ذلك اليوم حين اصطحبني أحد الأقارب لزيارة جارة لهم، امرأة موقرة طاعنة في السن، يداها ترتعشان وهي تخرج لفافة قماشية من صندوق خفي، عدة طبقات من الأقمشة القطنية البيضاء، تتنفس منها صفحات مصحفٍ قازاني قديم، حملته لي كما لو تحمل كنزًا مكنونًا، فتحته بحرص لتريني أجزاءً متآكلة من مصحفٍ قازانيٍّ قديم، وسألت هل بإمكاني القراءة منه، اغرورقت عيناي بالدموع، حين رأيت سرورها لتمكني من ذلك.
كذلك توجهنا إلى قرية قريبة عبر طرق زراعية، لنزور احدى الجدات، عانقتني بنظراتٍ دافئة كأنها تنتظر هذا اليوم منذ عقود، وجدتها لا تزال رغم كبر سنها تحفظ بعض قصار السور، كانت قد تعلمتها في فترة ما قبل الثورة البلشفية، وأرتني سبحة طويلة صنعتها بنفسها، كأنها تنسج بخيوط تربطها بماضٍ غابر، وسرت جدا بزيارة عربي لبيتها. وكان ذلك حدثا من المستحيل تخيله آنذاك.
وهنا لابد من تنويه إلى أهمية دور الأمهات والجدات في الحفاظ على الإيمان والتقاليد خلال ذلك العهد الصعب. فوراء هذه الصورة من الصمود، لعبت النساء التتريات دورًا محوريًا؛ ففي البيوت، حافظن على الموروث الثقافي، ونقلن حكايات وتقاليد الأجداد، وغرسن مبادئ الإسلام الأساسية في البيوت في قلوب أطفالهن بعيدًا عن المدرسة الرسمية.
من لم يعش تلك الفترة لا يدرك مدى صعوبتها، على المؤمنين، أو قسوتها على المتدينين، ولا يستوعب كم كانت المصاحف نادرة ناهيك عن الكتب والمتعلقات الدينية.
قرب قرية صفاجاي وهي كذلك واحدة من أقدم قرى الـمحافظة، أقيم نصب تذكاري لعدد من الائمة والمعلمين من ضحايا حملة الإرهاب المنظم التي شنتها السلطات في الثلاثينات.
يتداول الأهالي ان الأئمة والمعلمين، اخذوا من بيوتهم وأعدموا، ودفنوا في مقبرة جماعية، لم يكشف عن موقعها إلا بداية التسعينات حيث أقام الأهالي النصب التذكاري.
يقول كبار السن في صفاجاي انهم رغم ذلك كانوا يتعلمون سور القرآن سرا في المنازل بعيدًا عن أعين المخبرين.
رغم كل المحاولات المنهجية لاقتلاع الدين من الحياة العامة، ورغم القمع الذي قادته مفوضية الشؤون الداخلية (NKVD) في ثلاثينيات القرن الماضي، ظل الإيمان جمرة متقدة في قلوب التتار.
وما إن انهار الاتحاد السوفييتي عام 1991، حتى تنفست المجتمعات الإسلامية الصعداء، ومع صدور قوانين تضمن حرية المعتقد برز الدين كمكون أساسي، للشخصية التتارية.
من شواهد ذلك ما تراه على مداخل قرى التتار في المنطقة حيث أقيمت علامات او نصب على هيئة مساجد تعلوها بشموخ أهلة كبيرة واضحة، ترمز للمسلمين، وعليها اسماء القرى باللغات التترية، والروسية، وبعضها بالتترية القديمة ذات الأحرف العربية…
(
الهلال الذي يتوج مداخل القرى ليس مجرد شعار، بل هو انعكاس لعودة الروح إلى الهوية.
تمامًا كما تعلو الأهلة النصبَ التذكارية في مداخل القرى، أصبحت مآذن المساجد الجديدة، ومآذنها الجميلة وعلامات الطرق التي تذكر بالله، التي أخذت تنتشر في كل قرية هي التعبير الحي والأقوى عن عودة هذه الهوية وازدهارها.
في العهد السوفييتي، ربما في المنطقة كلها لم يبق من فترة ما قبل الثورة سوى مسجد واحد فقط في قرية ريبوشكبنو، يتردد عليه كبار السن المتقاعدين، يوم الجمعة تحديدا، ونادرا ما تؤدى فيه الصلوات الخمس يوميا. أحدها كان.
اليوم في كل قرية هناك مسجد أو اكثر، نهض به أهل المنطقة او أحد أبنائها الموسربن، وشُيِّد بسواعد سكانها. وقد ذكرت ان كثيرا من تتار موسكو ينحدرون من هذه المنطقة بالذات.
في ريبوشكينو هناك حاليا ثلاثة مساجد، احدها هو ذلك المسجد القديم، وإضافة اليه بني مسجدان أحدهما يعتبر تحفة فنية، شيد على الطراز العثماني، واستقدمت لبنائه شركة مقاولات تركية، بتبرع من أسرة أحد أبناء المنطقة، صدقة عن روح ابنهم عبدالحميد (وسمي المسجد على اسمه) وكان قد اغتيل نتيجة تصفيات ومنافسات تجارية، وكانت له أعمال خير وبر مشهودة في البلد.
وفي قرية "مادانة" القريبة من ريبوشكينو شيد مسجد كبير، به فصول للتدريس وتعليم الناشئة، بني على نفقة أحد أبناء البلدة.
في قرية صفاجاي هناك الان ٤ مساجد، وكذلك الحال في كل قرى المنطقة حيث تفتتح المساجد فيها وتبنى بتبرعات وإسهام أبناء البلدة. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ليست المساجد الجديدة مجرد حجارةٍ تُرصَّع، بل هي إعلان بانتصار الذاكرة على الإبادة، بعد زهاء قرنٍ من المحو المنظم، وها هي تُحيي تراث الأجداد بتعلم القرآن وأحرفه العربية.
في الصيف تتحول المساجد إلى بؤرة نشاط تقام فيها الدروس والدورات التعليمية للأطفال، للمقيمين والزائرين، حيث درجت العادة ان يرسل أبناء المنطقة اولادهم لزيارة اهلهم في القرية.
إعلاء الأذان هو إعلان هوية ورسالة ان السنوات العجاف لم تأكلنا، وسيتبعها سنوات من الخير، فيها يغاث الناس وفيها يعصرون.. كما في سورة يوسف.
وهكذا، تمضي قرى التتار الميشار في نيجني نوفغورود، شاهدةً على قمع رغم قسوته لم يمح الإيمان، وعهد فشل في اقتلاع الجذور.
وبعد أن كاد الظلام يبتلع صوت الأذان، تعود المآذن لتشق عباب السماء، فيما الشواهد والنصب التذكارية تقول للعالم: نحن أبناء الملة، سنحفظ تراث الـ أجداد، وسنبني المستقبل على أسس هويتنا التي صقلتها النيران، وشعلة إيماننا أعتى من أن تنطفئ.
IslamNews.Ru وكالة الأنباء
تسجيل الدخول ب:
Ответить
مقال جميل،،، معلومات تاريخية تخفى عن العالم العربي والإسلامي
Ответить
هذا ثاني مقال يخطه الكاتب عن "ذكريات " من الماضي القريب عن واقع حياة المسلمين التتار، وكيف انتصر الكف على المخرز ، حيث استطاع المسلمون التتار الحفاظ على هويتهم الاسلامية بالرغم من كل محاولات القهر والاضطهاد التي تعرضوا لها على مدى قرن من الزمان وأرجو أن نشهد مزيدا من المقالات التي توثق أجزاء وصورا من صمود وتحدي المسلمون لكل محاولات الطمس للهوية الاسلامية للمسلمين للتتار