في حضن الجبال: رحلة إلى قلب داغستان المؤمنة

Место пленения имама Шамиля قرية غونيب – آخر قلاع الإمام شاميل رحمه الله

Место пленения имама Шамиля قرية غونيب – آخر قلاع الإمام شاميل رحمه الله

العلامات:

1
06-08-2025

(9) حديث الذكريات

تحمل هذه الصفحات عبق قمم شاهقة، وهمسَ مياهٍ عذبة، وصدىَ دعواتٍ خرجت من قلوبٍ مؤمنةٍ حُبست بين صخورٍ وظلماء. رحلة إلى داغستان، حيث اليقين يُصقل كالذهب في النار. وأول الحكاية 'أولوآية' – تلك البلدة الطيبة، وعن رجالٍ ونساءٍ جعلوا من القرآن نورًا يسطع في ظلمات الزمن. ذهبتُ زائرًا، وعدتُ تلميذًا أمام عظمة إرادةٍ لا تقهر، وتواضعٍ يعلو كالجبال.

داغستان، أرض المرتفعات الشامخة، تحتضن في أعاليها هضبة خضراء تتحدى قسوة الصخور بجمالها الآسر. هنا، في قلب الجبال، تقع منطقة ليواشي، ومنها تتألق بلدة "أولوآية"، الوادعة الطيبة. هواؤها العليل ينعش الصدور، وماؤها الصافي يعكس نقاء أهلها وإخلاصهم. لم أرَ شعبًا يتمسك بدينه بمثل هذا العزم، حتى في أصعب الظروف، فكأن إخلاصهم جزء لا يتجزأ من صخور بلادهم.

موقع المنطقة والبلدة في الوسط، في موقع القلب من الجسد، جعلها موضعا مميزا تشد اليه الرحال كل اسبوع من قرى ومحافظات البلد، لحضور سوقها الأسبوعي، والذي تجد فيه كل شيء من حاجيات المنزل وتجهيزاته إلى الطعام والمأكولات بأنواعها، ومن عدد العمل إلى المنتجات اليدوية المتنوعة التي تشتهر بها داغستان.

وصولي إلى داغستان

كان من حسن حظي ان أول زيارة لي لداغستان كانت إلى هذه البلدة تحديدا، ومنها انتقلنا وزرنا اغلب المحطات التاريخية التي اشتهرت بها داغستان الحصينة الجميلة، كجمال ومنعة جبالها. وصلت داغستان أول مرة في العام 1990 بعد ليلتين قضيناهما في قطار سريع كان هو وسيلة التنقل الوحيدة المتاحة من موسكو.

رفاق السفر

رافقني في هذه الرحلة الفريدة أخوان كريمان من تونس وفلسطين، مصاحبين مضيفنا الكريم في داغستان الشيخ محمد سعيد الدرغيني ابن "أولوآية" الذي ذكرت تعرفي عليه سابقا في "بيت الأرقم" السوفييتي.

طريقنا من محج قلعة إلى "أولوآية" في ذلك الوقت كان يتطلب عبور الجبال من جهة بويناكسك ( التي كانت تدعى تيمير خان شورة عاصمة داغستان قبل الثورة البلشفية) وكانت تلك الطريق الوحيد المتاح للوصول إلى الهضبة وسط داغستان في قلب الجبال العالية.

حنين

تخيل نفسك وسط سلسلة قمم تتلوها تلال كالأمواج، تصعد بك السيارة إلى سفوح ثم تهبط وهاد، لترتقيها مجددا.. عند رؤية الجبال لأول مرة شعرت بشوق شديد لفلسطين، وشدني الحنين لأسرح في الخيال مقارنا بين جبال فلسطين، وداغستان ورغم أن الفرق كبير بينهما، إلا أن تشابها كبيرا يجمع بين شعبيهما، أنه الإباء والشجاعة والإصرار.

لم أستفق إلا على صوت مضيفنا الكريم يحدثنا عن عمود فولاذي يشبه النصب على الطريق، مثني من وسطه، يقال ان أحد رجال القرية ثناه بهذا الشكل، غضبا وقهرا، قبل ان يقتاده رجال الدولة القيصرية إلى المنفى، حيث قضى وبقي هذا العمود شاهدا على نير ذلك العهد.

كثيرة هي المعالم التي تربط هذا البلد بتاريخ طويل من الكفاح والنضال ضد استبداد القياصرة، في تلك الأرض، كل صخرة تحكي قصة، وكل منعطف يخبئ ذكرى عالم، وكل عين ماء توضأ عندها مجاهد، فقد كانت مركز الأئمة الثلاث غازي محمد، وحمزة بيك، والإمام شاميل الذين أسسوا نظام الإمامة، متصدين لظلم الدولة القيصرية، وتمددها في بلادهم لأكثر من ثلاثين عاما.

عين ماء جبلية ومصلى

قبل أن نصل وجهتنا، كانت لنا وقفة قرب عين ماء جبلية، يتوقف عندها معظم أهل الجبال عند سلوكهم ذلك الطريق ذهابا وإيابا، يرتوون من عذب مائها، ويملؤون قربهم لمواصلة الطريق، ولشد ما أدهشني أن كان بلصقها غرفة صغيرة للصلاة، فلم يكن ذلك معتادا في الاتحاد السوفييتي في ذلك الوقت، أما الآن فبحمدالله تنتشر المصليات في أغلب محطات الوقود في داغستان..

سوق البلدة وكرم الضيافة

بعد هذه الوقفة، وصلنا "أولوآية" قرب العصر، في يوم السوق الأسبوعي، وهو يقام في خراج البلدة؛ أراد صاحباي شراء طعام محلي يتذوقانه، فأبى مضيفنا وقال سنذهب للبيت فالطعام جاهز هناك.

وهذا طبعهم، قٍرى الضيف جاهز في أي وقت. كما كانت العرب تفعل، تبتهج بالضيف وتهل له، وتوقد النار ليلا ليحل من يراها من بعيد ضيفا على صاحب النار.

الخينكال وما أدارك ما الخينكال

انتقلنا إلى البيت لنجد اهله قد أعدوا لنا طعاما محليا شهيا، تشتهر به داغستان ويعرف انه من طعام أهلها يدعى "خينكال"، وهو طعام من بيئتهم، عبارة عن قطع من العجين، متوسطة الحجم، تطبخ مع مرق اللحم، وتقدم مع المرق، ولحم الضأن المسلوق، أو المجفف، وجدت مذاقه طيبا للغاية. وحدت أن أهل داغستان مثل بلادنا يفضلون لحم الضأن، فيما التتار في موسكو بالمجمل لا يحبون لحم الخرفان، ويفضلون عليها لحوم الخيل والبقر.

لاحظت ان الخينكال له أشكال متنوعة بتنوع قوميات داغستان، وإن كان المكون واحدا، فعند "الآفار"، وهم القومية الرئيسة والأكبر في داغستان، قطع العجين تكون سميكة وكبيرة، وعند الدرغين شرائح ملفوفة كحلقات، وعند القوميك، شرائح مربعة متوسطة الحجم، تشبه طبق "البيش بارماك" (الأصابع الخمسة) الكازاخي.

قال لي مضيفنا وهو يقدم "الخينكال": "هذا طعام الجبال، يُشبع ويُدفئ.. وأضاف أنهم يتجنبون الأكل في الأسواق، ويعتبرون ذلك من خوارم المروءة، وهنا استغرب صاحباي قائلين هذه أول مرة نرى تطبيقا لهذا المصطلح الذي كنا نسمع عنه ونقرأه في الكتب..

بيوت حجرية فسيحة

بتنا ليلتنا في بيت الأخ محمد سعيد، ووجدت ان بيوتهم في القرية تختلف اختلافاً كبيرا عن شقق موسكو الضيقة، فبيوتهم مستقلة منفصلة، مبنية من حجر، ولا عجب فنحن في الجبال، ذكرتني بالبيوت في فلسطين والأردن، التي كانت تبنى من الحجر.

غرفهم فسيحة واسعة سقفها مرتفع، أرضياتها الخشببة المتينة، مكسوة كجدرانها من أجل الدفء بالسجاد الداغستاني الجميل، والذي تشتهر داغستان به، ويطلبه الناس من أقاصي الأرض. في البيوت أنظمة تدفئة بالموقد تبعث الدفء في البيت كله، ومع ذلك جاءنا الاخ محمد بأغطية سميكة، قائلا ان البرد في الجبال قاس.

وحول كل بيت قطعة ارض صغيرة يستخدمونها لحاجات البيت من زراعة وأعمال مختلفة.

عادة القوم ان تكون "بيوت الراحة" في الخارج، وتضطر للخروج اليها في بطن الليل في برد الجبال، وانت ترجف.

الرجال محمد والنساء فاطمة

تعرفنا على والد الأخ محمد وإخوانه وبعض أقاربه، وأصحابه، بعضهم كنت التقيته في موسكو من قبل، فوجئ صاحباي أن أغلب الرجال تبدأ أسماءهم بمحمد، (كانت هذه العادة منتشرة في فلسطين سابقا، حيث يضاف محمد قبل الاسم، فتجد محمد عصام، محمد جهاد مثلا) وقيل لي أن اسم فاطمة هو الأكثر شهرة بين النساء في البلدة، تيمنا بسيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء عليها السلام. وما ذاك الا لحبهم وتعلق قلوبهم بسيد الخلق المبعوث رحمة للعالمين عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم. كان ذلك وحده مدعاة إعجاب، وإكبار.

زي الرجال والنساء

وجدت الرجال يلتزمون بزي عام متقارب، فهم يرتدون الجاكيت الخارجي، وقمصانا طويلة الأكمام. ويضعون قلنسوة بيضاء، كلقنسوات حجاج الشام، وإن كانوا خارج البلدة يلبسونها تحت القبعات.

فيما النساء يغطين رؤوسهن بمناديل بيضاء طويلة، مزينة في أطرافها بنقوش متنوعة، وثيابهن فضفاضة ضافية، أقمشة سوداء بالمجمل مزينة برسومات زهور أو نقوش، وبأطراف المنديل يسترن بعض وجوههن حين يكن في السوق أو خارج المنزل.

تقارب يبعث الدفء

بيوت البلدة متلاصقة تبعث الدفء، مما يولد لديك شعورًا بالمودة والألفة، وهدؤها يبث السكينة والراحة، ويدفع للتأمل.

هذا التقارب بين بيوتها كغالب بلدات وقرى الجبال يعكس كذلك تماسكًا اجتماعيًا وتقاربا وتعاونًا بين السكان لا تجده عند اهل المدن.

كان الطريق الرئيس في ذلك الوقت ترابيًا، تتناثر فيه الحفر كجراحات التاريخ.

المذهب شافعي والعربية لغة العلم

أدهشني ان كثيرا ممن أتى للسلام علينا يتحدث العربية بطلاقة، بلغة فصيحة واضحة، ارتعدت مشاعري إجلالاً حين سمعتهم يتلون القرآن بالتجويد، ورأيت منهم من يعرف قواعد الصرف والنحو أفضل منا نحن الثلاثة "الضيوف العرب"، وجدت بعضهم، يضرب أمثلة من الألفية التي يحفظون الكثير من أبياتها.

ووجدتهم جميعا ملتزمين جدا بأحكام الفقه على المذهب الشافعي، ويعرفون دقائق المذهب، وعلماءه وشروحه. يحافظون على طهارة المكان، وطهارة الملبس، بدقة عالية، ولا يصلون حاسري الرأس، حين استفسرت كيف حدث ان اهل بلدة جبلية في قلب داغستان؛ تبدو موئلا للإيمان والإسلام، كما لو كانت بمعزل عن محيطها، في بلد يحكمه حزب عقيدته الإلحاد وانكار الإله، وهو امر شئنا ام أبينا، ينعكس على سكان البلاد، فالناس على دين ملوكها..

علماء الجبال – حراس الإيمان

روى لي الاخ محمد سعيد أن الفضل في ذلك بعد الله تعالى يرجع لجهود الشيخ خضر ، وهو صنو إلياس حاجي الأقوشي، رحمهما الله.

نجا بفضل الله، من حملات القمع في الثلاثينات، واتفق مع اهل القرية ان يرسلوا اليه أبناءهم الفتيان، يعلمهم العربية والقران، وأحكام الدين، خفية في منزله، بعيدا عن أعين الرقباء والمخبرين، فكانت النتيجة ان جيلا مؤمنا نشأ في القرية، صحيح المعتقد، قوي الإيمان، ثابتا على درب المصطفى عليه السلام، صبغ البلدة بطابعه الايماني، وزرع بذور الصبر والأيمان، في قلوب أهلها بتؤدة وصبرـ مما رسخ الترابط والوئام بين أبنائها بحمدالله، وبزرعه هذا، نبتت أشجار الإيمان، وترعرعت، حتى إذا أُزيحت الستائر، كان هناك جيل كامل يحمل القرآن في صدره، ويعرف طريق القبلة دون بوصلة.

خضر قاضي بن محمد : معلم الإيمان في زمن الإلحاد

خضر قاضي بن محمد ليس مجرد معلم، بل هو مجدد، حفظ الله على يديه الإسلام من أن يندثر في الجبال كما جرى في بعض القرى، أردت أت ألتقيه لكن لم يكن الشيخ موجودا في البلدة وقتها، وأظن اننا التقينا بابنه، ثم التقينا بالشيخ ميرزا حاجي العالم الجليل، حامل راية الشيخ خضر من بعده، ولا زال حتى يومنا هذا يواصل العطاء، ويقدم دروس العلم كل صباح، يتسابق طلبة العلم على دروسه، وبعضهم يأتي من قرى وبلدات خارج المنطقة.

جمع الكتب وحفظ التراث

عرفت من الاخ محمد عن جهوده في السبعينات في جمع الكتب والتجوال بين القرى في الجبال، وعن مواقف طريفة حدثت اثناء ذلك. بحثا عن الكتب وما بقي منها لدى الناس، مما طبع أو خط ما قبل الثورة البلشفية، ونجى من اعمال الحرق والإبادة الثقافية التي كان يشنها موظفو الداخلية على كل ما كتب بالعربية او بالأبجدية العربية السائدة في داغستان قبل انقلاب البلاشفة.

في داغستان قبل الثورة كانت هناك مطبعة ودار نشر في مدينة "تيمير خان شورة" تطبع الكتب الإسلامية والصحف والمجلات، وكانت مركز حركة علمية وأدبية واسعة. حتى أوقفها البلاشفة وصادروا معداتها وحرقوا كتبها.

الشيخ حسن أفندي الألقداري

عند الأخ محمد في تلك الزيارة تعرفت لاول مرة على آثار العالم النحرير، العلامة الجليل الشيخ حسن أفندي الألقداري رحمه الله، بكتابية التحفتين "جراب الممنون" و"ديوان الممنون" المطبوعين في تلك المطبعة.

في "جراب الممنون" كان الشيخ حسن أفندي، يجيب من منفاه اواخر القرن التاسع عشر، على أسئلة ترده من علماء وطلبة علم يستفتونه حولها، وكان يفتتح بعض إجاباته بمدح السائل، بأبيات شعرية ينظمها في حقه، وأحيانا ترد الأسئلة أيضا بصياغة شعرية لطيفة، مما يدل على امتلاك علماء ذاك العهد ناصية العربية وتمكنهم من علومها، فانسابت بين أيديهم صياغة وشعرا.

العربية لسان النخبة

كنت أقرأ الرسائل وردوده عليها، بدهشة وذهول، فقد اكتشفت أن العربية كانت لغة العلم والتخاطب بين علماء داغستان، كما هي الإنجليزية في عالم اليوم لغة الديبلوماسية والتبادل الثقافي بين مختلف الشعوب، أو الروسية بالنسبة للقوميات العرقية في روسيا اليوم.

كانت لغة القرآن حتى عهد قريب من قيام الثورة البلشفية تشغل هده المكانة في داغستان، وكانت هي لغة العلم والأدب لدى نخبة المجتمع، وكانت لها الحظوة.. حتى العالم الروسي المستشرق كراتشكوفسكي الذي ترجم معاني القرآن الكريم إلى الروسية أقر بذلك وكتب عنه، هذا في الوقت الذي كانت الفرنسية هي لغة النخبة في روسيا القيصرية في ذلك الوقت.

ديوان الممنون

أما "ديوان الممنون" فهو كتاب شعري عز نظيره، فيه أدب وتاريخ وسيرة شخصية، ينظمها الشيخ حسن أفندي شعرا، بعد ان يقدم نصا من فصيح كلامه يوضح حادثة او خاطرة أثارت قريحته لينظم القصيد.. فلله دره.

ترك ذلك أوقع الأثر في نفسي، كما شدني وصفه لمنفاه، وتغريبه عن أهله وبلدته، بوشاية تسبب بها بعض الحاقدين، وكان الشيخ حسن أفندي قاضيا في عهد الإمامة لدى الإمام شاميل، وقد كنت دوما اتساءل ماذا حل برجال الإمام بعد أسره واقتياده إلى "كالوغا" في قلب روسيا في "ضيافة" القيصر؟ وكان قد طعن في السن، ووهن البدن. من كتاب الشيخ حسن فهمت بعض ما جرى معهم.

كنت أسهر على ضوء خافت كي لا أزعج صحبي، أقرأ ما كتبه الشيخ حسن أفندي وصوت المدفأة، في قلب الليل، ورطوبة الهواء في الجبال، تخلق أجواء سحرية تأخذك لتعيش عالم الكاتب بتفاصيله، فقد أضاء الشيخ الألقداري في صفحاته على جزء من حياة رجال وأعيان وعلماء في ذلك العهد.

وقد عرفت انه أعيدت طباعة الكتابين مؤخرا في داغستان، وقام الناشر مشكورا بجهد طيب في تحرير وتدقيق النص، مع توضيح وشرح فيه فائدة تعين القارئ على فهم تعابير، ومصطلحات ذلك الزمان.

الشيخ محمد طاهر القراخي

ومما حفظته مكتبة الاخ محمد القديمة، قرأت عن الشيخ محمد طاهر القراخي، وهو صاحب علم وفضل، وله كتاب عن تاريخ الإمام شاميل، يتحدث فيه عن جانب من الوضع الاجتماعي والاقتصادي في عهد الإمامة، وقد كان هو أحد رجالها.

كنت كمن يكتشف عالما جديدا، لم يسمع عنه ولم يعرف عنه من قبل، فإذا به يقف وسطه، يعاينه ويحاول استيعاب المشهد خشية أن يفلت منه شيئ.

رأيت كيف يبقى الدين حين يُورَّث إيمانًا لا شعارًا، وكيف تُبنى الأمم على صبر المخلصين.

زيارة المعالم الأثرية والتاريخية

برنامج زيارتنا إلى داغستان كان حافلا، في كل يوم نزور موقعا ويكون لنا لقاء أو أكثر، الوقت ضيق لا يكفي لتغطية جميع الأماكن التي اراد مضيفنا الكريم ان نزورها، كنا نخرج من القرية صباحا لنزور الأماكن الأثرية حيث صنع التاريخ، ونعاين تراث السابقين، ولا نعود إلى البلدة إلا في الليل.

غونيب – الحصن الأخير

خصصنا يوما لقرية غونيب، الاسم مشتق من الكلمة الآفارية "غوني مير" التي تُترجم إلى كتلة من الحجارة، وهي بلدة الإمام شاميل الأخيرة، وكانت لها أهمية تاريخية كحصن طبيعي خلال حرب القوقاز في القرن التاسع عشر. أدار منها الإمام شامل، آخر معاركه مع الأمير ألكسندر بارياتينسكي.

ومنها صعدنا إلى غونيب العليا، حيث القلعة الحصن الأخير للإمام شاميل التي حوصر فيها، ومنه استسلم في 25 أغسطس/آب 1859، بعد مقاومة دامت ثلاثين عامًا، ويؤخذ إلى روسيا للقاء القيصر، والإقامة في ضيافته، منهيا عقودا من القتال مع القياصرة.

كل شيء تقريبا يذكر بالإمام شاميل، فما زالت ذكراه تعيش في وجدان وذاكرة الداغستانيين، فلا يخلو مكان من صوره، ويسمون أبناءهم باسمه، فهو يعتبر بطلا قوميا، هنا القلعة وبوايتها، هناك نصبت المدافع التي دكت الحصن، هنا الصخرة التي وقع الاتفاقية عندها، وقد كان الإمام شاميل ولا يزال موضع فخر واعتزاز لكل قوقازي.

وقد عامله القيصر بعد أسره باحترام، وخصص له قصرا في كالوغا يقيم وأسرته فيه، وأجرى عليه راتبا، شريطة ألا يثير البلاد مجددا، وسمح له بعد فترة بالسفر مع أهله للحج، واستقبله السلطان العثماني وهو في طريقه إلى الحجاز، حيث توفي بعد الحج في المدينة المنورة، خاتما حياة غنية بالأحداث، نجا فيها من الموت مرات ومرات.

قلعة قريش وذكرى الفاتحين

ثم كانت لنا رحلة لمشاهدة موقع قرية قديمة تسمى "قلعة قريش" يقال انها تعود للعرب الفاتحين. وهي مهجورة الآن، فيها آثار إسلامية قديمة تعود لما قبل ألف عام (مسجد ومقبرة) تعود للقرون الأولى، ويقال ان فيها قبور عدد من الصحابة الفاتحين، من بينهم سلمان بن ربيعة، وعبد الرحمن بن ربيعة، وسراقة بن عمرو، والله أعلم.

تتأمل هذا المشهد ويأخذك التفكير العميق كيف وصل القرشيون في ذلك الزمن إلى هنا، هذه القلعة في أقاصي داغستان هي شاهد على أن هذا الدين، تطلب منهم التضحية والغربة والسير في الطرق الوعرة، حتى استقر في النفوس التي لا تعرف المستحيل.

بعد ذلك بدأنا رحلة العودة من الجبال باتجاه ساحل بحر قزوين، لنسلك طريق المدينة التاريخية العريقة، مفتاح الجبال، وبوابتها، ومفترق طرقها، قبلة الشعراء والأدباء إنها دربند "باب الأبواب".

في الطريق إلى دربند.

كنت قد قرأت مرة كتابا لمحب الدين الخطيب اسمه "مع الرعيل الأول"، يتحدث عن مدينة دربند (باب الأبواب) وأن صحابة الرسول عليه السلام وصلوها في السنين الأولى من الفتوح الإسلامية، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وهم يلاحقون فلول كسرى، ويقوضون دولته، ومن كانت فرحتي حين علمت أن مشوارنا التالي سيكون إليها.

والتنقل في ذلك الزمن كان يستغرق وقتا أطول مما هو عليه الحال اليوم بعد أن فتحت أنفاق وطرق معبدة جديدة في الجبال، تربطها بمحج قلعة، مختصرة كثيرا من الوقت والجهد.

دربند: عبق الصحابة

وصلنا مدينة دربند (باب الابواب) المدينة التاريخية، العتيدة الحصينة، التي جبلت تربتها بدماء الصحابة، وتخضبت بعطر الشهادة، فيها قبور صحابة الرسول الكرام.

في القرن الأول للهجرة. كانت بداية عهدها بنور الإسلام، لم أكن أصدق اننا هنا، كأني أسمع خطى بعثات الفاتحين الأوائل، على أدراج القلعة، وكأني ألمح ظلّ بن ربيعة قرب السور.. استحضر دأب الدعاة الاوائل، وكم بذلوا من جهد كي يعبدوا الطريق، ويفسحوا المجال كي يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

صلينا في مسجدها التاريخى "مسجد الجمعة" الذي بنى قبل أكثر من ألف عام، وهو بهذا يعتبر أقدم مسجد في روسيا.

ذهبنا بعد ذلك إلى قلعتها الحصينة "نرين قلعة" التي تدخل في قائمة التراث العالمي لليونسكو، ومنها أطللنا على المدينة حيث تنكشف المدينة القديمة بكامل بهائها.

دربند حكاية قديمة، مدينة عريقة موغلة في القدم، يمتد تاريخها لأكثر من خمسة آلاف عام، تعتبر واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم، وقد احتفلت مؤخرا بتاريخها الزاهر باحتفال رسمي مهيب. موقعها المميز على الممر الضيق في السهل الساحلي بين جبال القوقاز وبحر قزوين، منحها أهمية استثنائية كمفترق طرق محوري، وربما من هنا جاء اسمها.

دربند غنية بالمعالم الأثرية، بما في ذلك الأسوار والتحصينات والطرقات والمساجد، ولا يتسع المجال لتعداد مآثرها. وفيها مقبرة قديمة يعتقد الناس أن فيها أربعين قبرا من قبور الصحابة الكرام، ويقول البعض أنها لتابعين، والله أعلم.

بحر قزوين

ثم عدنا إلى محاج قلعة، لنسبح في بحر قزوين (بحر الخزر كما كان يسميه الجغرافيون العرب قديما) ، وأكلنا من سمكه الشهي، سمك الحفشالذي يُستخرج منه الكافيار، والذي ليس له نظير في العالم، وكان صيده متاحا وقتها، والآن هو محمي بقوانين ومعاهدات دولية تقنن ذلك.

قفلنا عائدين إلى موسكو، وقلوبنا معلقة بتلك الربى، نحمل أجمل الذكريات وأبهى الانطباعات، عن داغستان وأهلها الكرام، قلوبهم أرق من الحرير رغم تضاريس بلادهم الصعبة.

تلك كانت البداية

حين أذن بالحج عام 1991، هيأ الله لي ان ألبي النداء لأول مرة، وكان ذلك من أرض داغستان بالذات، فقد صعب علينا السفر من طشقند، كما ذكرت في مقال الشيخ الشهيد ولي الله يعقوبوف، وشاءت إرادة المولى جل شأنه ان ييسر السفر من داغستان..

اتصلت بالاخ محمد الذي قال لي ان أسرع بالمجيئ إلى محاج قلعة وهو سيرتب الأمر إن شاء الله، وهكذا كان، وتبين أن أغلب أهل "أولوآية" في ذلك العام قد عقدوا نية الحج وتجهزوا للخروج.. بعضهم جاء بالحافلات بل وحتى الشاحنات، وكان عاما مباركا وأنت ترى الألوف ن الاتحاد السوفييتي تفد البيت الحرام لأول مرة.

في الأعوام التالية كان أهل "أولوآية" وكذلك سائر أهل داغستان يسافرون بالحافلات لأداء العمرة والحج، ويخرجون قبل الحج بوقت مناسب، ويتوقفون في محطات للراحة، وبيع بعض منتجات داغستان، وأهمها السجاد اليدوي، والعسل.

المدرسة التي أشرقت في الجبال

حين رفعت القيود عن حرية المعتقد، كانت "أولوآية" سباقة، في مجال بزت به أقرانها.. وسطرت البلدة اسمها في كتاب المجد، وحجزت لنفسها موقعا خالدا في سفر السابقين، ببناء أول مدرسة في ق جبال داغستان… حيث يتعانق الضباب مع المآذن، كانت هي البذرة التي أنبتت سنابل الحكمة، ومنها انبثقت عشرات غيرها في المنطقة.

بعد عودتنا من الحج وجدت قلبي يكتب فصلاً من حكاية لن ينساها، تحدثت مع الأخ محمد حول ضرورة مواكبة التغيرات والاستفادة من الفرصة المتاحة لتطوير عملية التعليم، والرقي بها من غرف البيوت إلى مستوى جديد، واتفقنا على بناء مدرسة إسلامية في القرية، تكون صرحا ينشده طلبة العلم في داغستان.

ونهض لها الأخ بهمة عالية، ونشاط، وتمكن من توفير مواد البناء اللازمة، وقد كانت فترة عسيرة، كان توفير مواد البناء فيها يتطلب جهدا استثنائيا، وفي خلال سنة كانت المدرسة قد افتتحت أبوابها لطلبة العلم، وكانت فريدة عصرها، ودرة زمانها، لم يكن لها مثيل في كل المنطقة.. فيها فصول الدراسة، وقسم خاص للمبيت، مصلى، وكل ما يلزم لنجاح العملية التعليمية.. لم أستطع إخفاء دموعي حين سمعت الطلاب يتلون القرآن ويتحدثون بالعربية ببلاغة.

الحكمة وتجنب المطبات

كان للمدرسة وأساتذتها دور كبير في التوعية والتعليم في ذلك الوقت العسير، والحفاظ على منهجية وسطية، والدعوة بالجكمة والموعظة الحسنة.. ومنها تخرج كذلك عدد من حفاظ كتاب الله.

وقد استنسخ العديد من الرواد تجربتها بعد ذلك، وسلكوا نهجها في الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، وتعلم المنهج الوسطي دون افراط او تفريط.

جرت مياه كثيرة في النهر كما يقولون، ومرت أحداث عاصفة على المنطقة، ولكن الحكمة التي بثتها المدرسة ورجال العالم جنبوها كثيرا من المشاكل، التي وقع فيها للأسف كثير غيرهم.

مساجد زاهرة ومدارس منيرة

تزدهر البلدة اليوم ب8 مساجد، في مختلف أحيائها، ومدرستان أخريان غير تلك المدرسة، واحدة منهما خصصت للنساء. فيما تواصل مدرسة "أولوآية" أداء رسالتها كالسابق، وتنير كل صباح بدروس الشيخ مبرزا حاجي، ويتسابق طلبة العلم كالسابق في انتظار درسه..

حين أغمض عيناي، أستشعر عبق جبال داغستان يملأ صدري، وصدى أذانها يتردد في أذني، ودعوات أهلها الصادقة وكرمهم اللافت. هذه الذكريات ليست مجرد لحظات عشتها، بل هي دروس في الإيمان والصبر والترابط، الإيمان والكرم تجعل الحياة ذات معنى.

وهكذا، لم تكن "أولوآية"، تلك البلدة الطيبة، مجرد محطة في رحلة، بل كانت درسًا لا يُنسى:

علّمتني أن الإيمان الحق لا يكسِره طغيان، ولا تطمسه ظلماتُ استبداد، ولا تهزمه عواصف إلحاد مهما اشتدت. في تلك البلدة الصغيرة، لم يلعنوا الظلام فحسب بل أضاءوا شمعةً في ليلٍ طويل، فأنارت طريقَ أجيالٍ، وكانت منارة مضيئة للسائرين.

لننظر إلى مساجدها ومدارسها القائمة اليوم – إنها ليست حجارةً فحسب، بل هي إرثٌ من دموع الشيوخ، وصبر الأمهات، وعزيمة الشباب الذين أبوا أن يعطوا الدنية في دينهم، أعظم القلاع تُبنى بالإيمان لا بالحجر، وأجمل المآثر تُخلّد بالتقوى لا بالذهب.

إذا مرر أحدنا يوماً بتحدٍّ يهزّ البقين، فليتذكر شموخ داغستان وثبات أهلها.. وأن المجد يُصنع من رحم المعاناة، لنحفظ إيماننا كما حفظه الأولون، ولنجعل القرآن رفيقنا كما جعلوه، فحبّ هذا الدين هو أغلى ما نملك.

بقلم علي ابو عصام

خواطر من ومضات الذاكرة ولي الله يعقوبوف

"ميشار" نيجني نوفغورود: مآذن من رحم المعاناة

المستشرق المسلم: والي أحمد صدور وجهاد الفكر في أرض الثلوج

كيف حفظ "المجلس" هوية التتار من الذوبان؟


تعليقات() النسخة المطبوعة

اضف تعليق

ام المعتز بالله 12-09-2025
Ответить

رحله سياحيه ..ثقافيه ..دينيه في ربوع داغستان لقد اجدت السرد اخ علي ابو عصام وشوقتنا لزياره هذا البلد الاسلامي الرائع جزاك الله خيرا