الأمناء على التقاليد في قلب الصقيع - تتار سيبيريا

Лайтамак

Лайтамак

العلامات:

1
12-08-2025

في زوايا الذاكرة

تخيّل يا رعاك الله سهولًا لا تنتهي، تنبسط تحت سماء زرقاء صافية، وغابات كثيفة تعانق الأفق، ثم بردًا قارسًا يختبر عزيمة البشر. هنا سيبيريا، حيث يعيش في قلبها، شعب مسلم لا يعرفه كثيرون، امتحن في إيمانه، فصمد، وريم خسفا فقال بملء فيه لا، عركته المحن، فاشتد عوده، وصقلته النيران، فبان أصيل معدنه.

إنهم تتار سيبيريا، شعب أبيٌ، خاض رحلته التاريخية الفريدة، محافظًا على هويته رغم أعاصير الاقتلاع العاتية.

في سيبيريا

كان الهواء البارد يلسع وجهي كالسياط، والثلج يتكسر تحت قدمي بصوت جاف، بينما ضاع الطريق خلفنا وسط ضباب بلا نهاية، لم يطفئ صديقي محرك سيارته، وحين رأى تعجبي قال ببساطة هنا كل شيء مختلف.. إن اطفأت المحرك الآن فسيتجمد كل شيء فيه ولن يشتغل مجددا إلا في الربيع.. إنها سيبيريا!

في قلب سيبيريا، تبدأ قصتنا مع شعب عظيم قاوم قسوة البرد، وتمرد على النسيان، وبقي في قلبه محتفظا بدفء الإيمان.

مع التتار

اهتمامي بهم يبدأ من الثمانينيات، حين وقعت بين يدي كتب تذكرهم بشذرات عابرة. كنت أظنهم مجرد امتداد لتتار قازان أو حوض الفولغا، الذين كتبت سابقا بعض ذكرياتي معهم، بقيت على ذلك، حتى التقيت في العام 1992 واحدًا من خيرة أبنائهم، الشيخ نفيع الله حضرة – مفتي سيبيريا والقسم الآسيوي من روسيا- فكان ذلك اللقاء نقطة تحول.

التقيته في أوفا عاصمة جمهورية بشكيريا، حيث كان الشيخ وقتها نائبا لرئيس الإدارة الدينية المركزية، ومنه سمعت الكثير عن المنطقة، وتاريخها، والشيخ نفيع الله موسوعة متحركة في هذا المجال، وله دور كبير في التعريف بأحوال المسلمين في سيبيريا، وغيرها.

أول ما قرأت عنهم كان في كتاب فرنسي عن مسلمي الاتحاد السوفييتي، أشار إلى مدينة تومسك ومسجديها الأحمر والأبيض وما أصابهما بعد انتزاعهما من المسلمين. وفي أواخر الثمانينيات وصلتنا من إخوة جزائريين كتبٌ للشيخ محمد الغزالي، منها الإسلام في وجه الزحف الأحمر، وفيه ذكرٌ لخانية سيبير وصمودها، مقتبسًا كلمات تنسب لكوتشوم خان، آخر الخانات، يقول فيها: "لا أقبل عيش الأسير ولا موت الذليل، ولستُ أحزن لفقد أملاكي، وإنما حزني لأجل أولئك التعساء الذين وقعوا تحت الاستعباد”.

كانت تلك الكلمات كشرارة أوقدت فضولي: من هو هذا الخان؟ وأي خانية تلك التي قاومت القياصرة في أقاصي الشمال؟ لم أكن أعلم يومها أن في سيبيريا الباردة البعيدة تلك، كانت تحت حكم خانية تتارية، ولا أن اسم كوتشوم خان سيظل يتردد في وجدان شعبه قرونًا بعد رحيله.

عبد الرشيد إبراهيموف

مطلع التسعينيات، التقيت د. صالح السامرائي – تحدث بشغف واضح عن عالم من تتار سيبيريا هو الشيخ عبد الرشيد إبراهيموف – واهداني جزءً من ترجمته لمذكرات هذا الرجل الفذ. كان الشيخ من بلدة تارا (في أومسك اليوم)، تلميذًا للأفغاني، ورحّالةً جاب العالم دفاعًا عن أمته. أسس أول مسجد ومدرسة إسلامية في طوكيو؛ ونشر الإسلام في اليابان وحظي بمكانة رفيعة لدى حكامها.

لم تكن تلك المذكرات مجرد نصٍّ تاريخي، بل نافذةً على عالمٍ اندثر او يكاد. أسرتني شخصية الشيخ: همّته التي لا تعرف الكلل، وتجرده في خدمة قضيته، وثباته أمام أجهزة الاستبداد. دهشتُ لرؤيته الثاقبة؛ فقد حلّل بوادر انهيار إمبراطورية آل رومانوف مبكرًا، ورأى في انتصار اليابان (1905) بارقة أمل لخلاص بلاده من الطغيان. وهي الفكرة التي دفعت ثوار روسيا للانتفاض عام 1905، مما مهّد لثورة 1917 (كما كتب لينين). هاجر إلى طوكيو لا طمعًا في الراحة ورغد العيش، بل كما تصور لبناء تحالف إسلامي-ياباني ضد نظام القياصرة.

قراءة تلك الصفحات تركت في نفسي أثرًا لا يُمحى؛ وقفتُ إجلالًا لعالمٍ عز نظيره، أضاء ظلمة اليأس بسِراجٍ لا ينطفئ، ونفخ في رماد السنين، ليشعل جذوة أمل، مرددا حتى الرمق الأخير: أمتي.. أمتي!

معسكرات "الكومسومول"

حين وصلنا للدراسة في ثمانينيات القرن الماضي، كانت الجامعة خلال العطل الصيفية تُتيح لمن يرغب، العملَ في سيبيريا في معسكرات الكومسومول (منظمة الشبيبة الشيوعية).. وكانت لهم معسكرات ممتدة في مختلف الأرجاء في سيبيريا، (وكان لهم دور مشهود في بناء "بام" خط السكة الحديد أمور – بايكال الاستراتيجي) كانت تلك فرصةً نادرة للطلاب لكسب دخلٍ مرتفع أثناء العطلة..

لكنّ واحدًا فقط ممَّن أعرفهم قبل تلك المغامرة – صديق عزيز من السودان، كان يدرس الصحافة آنذاك – قرر أن يخوض التجربة بدافع الفضول وحبِّ الاستكشاف. وبعد عودته، أخبرني بنبرةٍ لا تخلو من السخرية: "كانت مغامرةً جميلة لا تُنسى... لكنني لن أعيدها أبدًا، مهما حدث!"

كان السببُ واضحًا: عبء العمل اليومي الشاق الذي فرضه عليهم "البريغادير"، والإرهاقُ الذي أنهك أجسادهم، ناهيك عن جحافل البعوض التي حاصرتهم بلا رحمة... وتلك – بعد كل شيء – هي أيضا سيبيريا!

في سيبيريا – مدن جديدة للطلبة الأجانب

في التسعينيات، بينما كان الاتحاد السوفييتي يترنح تحت وطأة التفكك، وتتهاوى أركان مؤسساته العتيدة، بدا أن السلطات المركزية قد أفاقت فجأةً على حقيقة مُقلِقة: أغلب المعاهد التعليمية التي كانت تستقبل الطلبة الأجانب تقع خارج الحدود الروسية، في جمهوريات لم تعد وشيكًا تابعةً لها. وكانت المدن الروسية نفسها، حتى تلك اللحظة، أشبه بقلاعٍ مُغلقة في وجه الغرباء. فسارعت السلطات، كمن استيقظ من سباتٍ طويل، إلى فتح أبواب تلك المدن أمام المستجدين من الطلبة.

وأخذنا نسمع عن مدن طلابية جديدة، مثل قازان ونيجني نوفغورود، ساراتوف وغيرها، لكن إحدى الوجهات كانت مفاجئةً كصاعقة: أرسلت أول دفعة من الطلبة إلى أعماق سيبيريا، إلى "إيركوتسك" تحديدا، تلك المدينة البعيدة، التي تقف شامخةً على ضفاف بحيرة بايكال، كجوهرةٍ متلألئة وسط تلك البيئة القاسية. لم يكن الأمر اعتياديًا البتة؛ فلم يسبق أن وطأت أقدامُ طلابٍ أجانب ذلك الصقيعَ البعيد، الذي لا يُقطَع إليه الطريق إلا بما يقرب من أربعة أيامٍ من السفر المتواصل على متن القطار السريع، حيث لا شيء سوى سهولٌ لا تنتهي وغاباتٌ تهمس بألغازها.

كانوا مجموعةً من شباب الخليل، حَمَلوا معهم نفحاتِ من فلسطين، وظنوا — كما ظننتُ أنا حين سمعتُ الخبر أول مرة — أن الاسم وصلهم مشوَّشًا، وأن المقصود هو كورسك، حيث وجوهٌ مألوفة يمكن أن تحتضنهم. لكن الحقيقة كانت مرة: لقد أُرسلوا فعلا إلى أقاصي الأرض، وكأنما اختُبِرَتْ قوةُ تحملهم منذ اللحظة الأولى. وأذكر كيف انتهت تلك المغامرة بسرعة، كحلمٍ ثقيلٍ تذروه الرياح، فنُقلوا لاحقًا إلى مدنٍ أقلَّ برودة، في وسط روسيا.

هكذا كانت البداياتُ في عصر الانهيار: خطواتٌ متعثرة، وقراراتٌ عَجُول، ومصائرُ تُرسَم بين سطور الفوضى، كأوراقٍ تتطاير في عاصفةِ تاريخٍ لم يُحسَم بعد.

الانطلاقة

أوائل التسعينات حين خفت القيود في الاتحاد السوفييتي، طرت إلى أومسك رفقة أحد الأصدقاء من القوقاز، للقاء شباب من سكان أومسك، من أصول كازاخية، سجلوا مركزا ثقافيا، ويسعون لتعلم العربية واحكام الدين، وكان ذلك بحد ذاته حدثا..

تلك كانت أول زيارة لي إلى سيبيريا، وكانت صيفا، حيث يطول النهار، ورغم أن نهار موسكو في الصيف طويل كذلك، إلا أنه في أومسك بدا بلا نهاية.

كانت لنا بعد ذلك زيارات إلى "تيومين"، التي فيها عاصمة الخانية التي ذكرها الشيخ الغزالي، وإلى "إيركوتسك"، و"نوفي أورينغوي" التي يقول أهلها أن مدينتهم ليست في سيبيريا بل من الشمال الأقصى...!

على حافة الجليد، القرى التترية

على مقربة من مدينة "توبولسك" توجد عدة قرى تتارية تعرف بـ "ما وراء المستنقعات"، تحيط بها غابات ومستنقعات، ما يجعل من المستحيل الوصول إليها صيفا، ولا تفتح الطرق إلا في الشتاء القارس، حين تتجمد المياه، ويمكن العبور بالسيارات فوق الجليد.

في تلك المنطقة تعرفنا على "لايتاماك" أكبر قرية في المنطقة في التسعينات، وكان فيها مسجد ينهض من أنقاض التاريخ.

وراء المسجد والقرية كما كل بقعة في سيبيريا حكاية وقصة يجب أن تروى.

"لايتاماك".. التي لا تنحني

في أطراف الدنيا، وراء غابات الصنوبر التي يكسوها الصقيع، وفي حضن السهوب الممتدة إلى الأفق، تنام قرية صغيرة اسمها "لايتاماك". حيثتتناثر البيوت الخشبية كأطياف دافئة في بحرٍ من الثلج لا تراها على الخرائط إلا كنقطة هادئة، لكنها في قلوب أهلها قارة من الحكايات والإيمان. شعرت أن بيني وبينها خيطًا خفيًا، كأن تاريخها ينادي.. عرفت قصصًا لا تمحى، قصصًا من الصبر والإيمان والمقاومة الصامتة

في الصيف، تسبح البيوت بين البرك المائية، كأنها جزر وادعة، وفي الشتاء تتجمد الممرات، فتتحول المياه إلى طرق بيضاء صلبة، تعبر فوقها السيارات. هناك، يعيش قوم من التتار المسلمين، يوقظهم الأذان، ويدفئهم الحنين إلى سجدات أجدادهم.

لجأ أسلافهم إلى هذا الركن القصي قبل قرون، فرارًا من موجة التنصير العاتية، فوجدوا في الجليد حصنًا وفي العزلة حرية. وكان بينهم عالم بخاري اسمه الشيخ (باختيوار)، وقف بعلمه وإيمانه سدا منيعا يحصن أهل القرية في وجه حملات التنصير العاتية، وكان من ورثة علمه آخر إمام للقرية في فترة الثلاثينات الصعبة الشيخ الشهيد (حنيف بارسيكوف)، رجل بعزيمة الأحرار وثبات العلماء، بملامح سيبيرية مضيئة بالإصرار، ختم حياته بالشهادة، في ذلك الزمن الموحش، وأغلق المسجد الخشبي.

لكن الحكاية لم تنتهِ. بعد عقود طويلة، مع رفع القيود في الاتحاد السوفييتي، نهضت حفيدته "شريفة أبا"، تحمل في قلبها شعلة الإيمان، وترفع راية المسجد الذي تهدم، وتعيد اسم جدها الشهيد الذي بقي ذكره حاضرا بالدعاء في كل "مجلس".

في السبعينات من عمرها، قررت استرجاع المسجد، فتركت دفء مدينتها، وراحة تقاعدها، وجاءت تحمل حبها، ومشت أولا وحدها لتبدأ المشوار.

بيدين مرتعشتين من البرد والسنين، وقفت تسابق الثلج والمطر. كل يوم تقف تتابع البناء بهمة ونشاط وكأنها في العشرينات، والريح تعبث بوشاحها الصوفي الأبيض، تتابع وصول جذوع الخشب وحجارة الأساس تصل عبر الطرق الجليدية. كانت عيناها تلمعان كمن يكتب سطرًا مقدسًا في كتاب العمر.

قالت تذكّروا يا أبنائي أن الإيمان يمكنه أن ينبت في أصعب الأمكنة، وأن دفء القلب يهزم قسوة الجليد.

وحين كلّ الجسد، سلمت أمانتها إلى جدتين أخريتين، "صالحة أبا" و"نصيب أبا"، كل منهما جاوزتا السبعين، لكن قلبيهما كانا في ربيع دائم. مضتا تواصلان الدرب، وتكملان العمل، تطرقان الأبواب، حتى عاد المسجد قائمًا، مئذنته تخترق سماء الجليد، وسجاده يفوح بمسك التكبير.

لايتاماك لم تكن قرية فحسب، كانت وعدًا بأن هذا الدين لن يموت، وجذوره راسخة ما دام هناك من يسقيها بالحب واليقين.

المساجد لا تعمر بالحجارة والخشب، بل بالصبر والحب والوفاء.

الأذان الفريد

في العام 1992 سافر أحد الإخوة الجزائريين إلى واحدة من البلدات النائية، وكان من المفترض أن يلتقيه أحد المحليين في محطة قطارات ويرافقه، ولكنهما لسبب ما لم يلتقيا، ولم يشأ أن تضيع منه الفرصة، فذهب رغم ذلك، متوكلا على الله، وحين وصل البلدة التي لا يعرف فيها أحدا، ولم تكن الهواتف متوفرة كما هو الحال الآن، هداه تفكيره أن يؤذن قرب السوق المركزي، وسمع أذانه باعة قوقازيون فأقبلوا عليه، وهكذا بدأت رحلة الدعوة، وزع الكتب، وأقام الصِلات وتعرف على الناس، وكانت تجربة لا تنسى.

من هذه الجولات في الكتب، ومن الرحلات واللقاءات، ارتسمت صورة شعب أبي، واجه الذوبان الثقافي بثبات وعناد، متحصنا بالإيمان، حافظا للذاكرة، شعب جعل من البيوت مساجد، ومن المساكن مدارس، ومن الغابات الكثيفة حصونا للتعبد والتعلم، ومن كل مناسبة "مجلسا" يذكر بالله.

لم تكن هذه سوى بداية الحكاية، فمن هم تتار سيبيريا، وما دورهم في التاريخ؟ لفهم ذلك، لابد من العودة، إلى زمن الخانات العظام، وتحديدا كوتشوم خان.. لنعرف من هو هذا الخان الذي دوّى اسمه في كتب التاريخ، وكيف حكم هذه الأرض البعيدة، وجعلها حصنًا أتعب القيصرية الروسية.

هنا نبدأ حكايتنا التالية مع صفحة من تاريخ تتار سيبيريا…

مشاهدات في بلاد التتار – 3 المقال الثاتي

بقلم علي ابو عصام

-------------------------------------------------------------------------

خواطر من ومضات الذاكرة ولي الله يعقوبوف

"ميشار" نيجني نوفغورود: مآذن من رحم المعاناة

المستشرق المسلم: والي أحمد صدور وجهاد الفكر في أرض الثلوج

حديث الذكريات عن الشيخ إلياس حاجي الأقوشي

كيف حفظ "المجلس" هوية التتار من الذوبان؟

تعليقات() النسخة المطبوعة

اضف تعليق

ابو نحلة 14-08-2025
Ответить

يصر الحبيب ابو عصام على معاودة إبهارنا بمقالاته المتقنة التي تؤرخ لحقبة زمنية محددة ومجهولة لدى الكثير ، فالمقالة تتميز بعذوبة لغتها وبنائها السردي الذي يجمع بين الحسّ الأدبي والدقة التاريخية. الحبيب ابوعصام يوظف تراكيبا وصورًا بليغة مثل “المقاومة الصامتة” و”الصقيع حصنًا” ' على حاضنة الجليد" ، "مسجد ينهض من انقاض التاريخ " والصورة التصويرية " لقرى ما وراء المستنقعات" والإبداع اللغوي عند ابي عصام وقدرته على تطويع الكلمات " أطياف دافئة في بحر من الثلج " كيف ممكن للأطياف الدافئة ان تسكن في بحر من الثلج ؟ وصف قمة بالجمال للقرية التترية متناهية البعد وكيف ممكن ان تكون " العزلة حرية " ؟ مبهر ابو ع...
Читать дальше