من جليد التاريخ إلى نيران المقاومة - تتار سيبيريا

العاصمة على نهر إيرتيش

العاصمة على نهر إيرتيش

العلامات:

1
13-07-2025

في قلب القارّة الأوراسية الشاسعة، حيث تمتد سهوب سيبيريا البيضاء وأنهارها المتجمدة، وُلد شعبٌ من رحم الحضارات والأعراق، متحديًا برد الشمال القارس وقسوة التاريخ. تتار سيبيريا، أبناء هذه الأرض، حملوا إرثًا معقدًا من النضال والتحدي، من خانية سيبير التي كانت قلعة في أقصى الشمال، إلى صراع البقاء تحت وطأة الإمبراطورية القيصرية المتوسعة. هذه الأرض التي شهدت صراعات أزلية، تحكي قصة صمود ومقاومة لا تعرف الانكسار.

الجذور: بوتقة الأعراق والتاريخ
في هذه الأرض المترامية الأطراف، وُلد الشعب التتاري السيبيري، كما تُولد الأنهار من تلاقي الجداول. اجتمعت فيهم القبائل التركوية القديمة التي جابت السهوب الجليدية، مع شعوب الخانتي والمانسي القادمة من أقاصي الشمال، لتتعانق دماؤهم مع موجات المهاجرين من المغول والهون. كان ذلك امتزاجًا نادرًا، صاغته البقاع الباردة والرحلات الطويلة، فأنجب أمة صلبة العود، قادرة على الحياة وسط أقسى البيئات.
واليوم، يقف تتار سيبيريا ضمن أسرة كبرى من الشعوب التي تحمل اسم التتار في روسيا: من تتار قازان وحوض الفولغا، إلى تتار الميشار، حتى تتار القرم. يختلفون في الجذور، لكنهم يتشاركون في الهوية، كما تتشارك الأغصان اسم الشجر.

وفي برد سيبيريا القارس، ما زالت جذورهم دافئة بتاريخٍ لا يذوب.

الخانية: قلعة في أقصى الشمال

حين انفرط عقد القبيلة الذهبية التي حكمت هذه الأصقاع بين عامي 1240 و1502م، خبت أنوار عاصمتها "ساري" في حوض الفولغا — ساراتوف اليوم — لكنها تركت إرثًا لا يُمحى في ذاكرة العالم. فقد كانت سيوفها حاميةً لثغور الدين في الشمال، وراياتها مبشرةً بدخوله إلى أراضٍ لم يعرفها من قبل، من سيبيريا شرقًا إلى معظم أوروبا الشرقية غربًا، حيث تمتد اليوم جمهوريات بيلاروس وأوكرانيا وبولندا وليتوانيا وحتى المجر.

غير أن دورها – المُغفَل تاريخيًا – كان إسهامها غير المباشر في النصر في معركة عين جالوت بفلسطين. فبسبب تمرد "بركة خان"، حاكم القبيلة الذهبية المسلم، وابن عم هولاكو، اضطر جزء كبير من جيش المغول إلى الانسحاب والعودة، تاركين مهمة الغزو لقائد آخر هو "كتبغا" النسطوري، الذي لقي هزيمته الساحقة على يد المظفر قطز وجيشه. كانت تلك أول صفعة كبرى يتلقاها المغول في تاريخهم.

لكن عواصف الزمن ما لبثت أن أصابت بيت القبيلة الذهبية نفسه، ففرّقت أمراءه كما تفرّق ملوك الطوائف في الأندلس، وتقاسم هؤلاء الأمراء أراضيها وأمجادها. تلك سنة الله في خلقه وفي الدول والمجتمعات: تولد، فتشب، ويشتد عودها، ثم تهرم وتشيخ، ويكون قدر الله الذي حتمه على عباده. وإن لم تتعهد نفسها بالتجديد والتغيير، اندثرت وتلاشت.

وفي خضم هذا التشظي، ظهر الأمير "أولوغ محمد"، متوجهًا بعشيرته وجنده شرقًا. وبعد أن تغلّب على خانيات مغولية واهنة، أسس خانية سيبير، وجعل الإسلام عقيدتها الجامعة، ونقل عاصمتها إلى "قاشليق" قرب نهر "إيرتيش" — حيث تقوم اليوم مدينة توبولسك في غرب سيبيريا.

هناك، تحت راية الإسلام، بدأ "أولوغ محمد" بتوحيد الأراضي ونشر الدين، وجعل من خانيته مركزًا تجاريًا نابضًا على "طريق الحرير" الشمالي، ذلك الشريان الذي ربط الشمال البارد بالجنوب الدافئ.. ومن اسم خانيته حملت المنطقة كلها اسمها الخالد: سيبيريا.

القيصر "إيفان" الرابع (الرهيب)
بعد أن أسقط القيصر "إيفان" الرابع — الملقب بـ الرهيب — خانيتي قازان سنة 1552 وأستراخان سنة 1556، انفتحت أمامه بوابة الشرق، وأطلّ على ما وراء جبال الأورال، حيث خانية سيبير تحت حكم "كوتشوم خان". ولم يتردد القيصر في تلبية مطلب أسرة "ستروجانوف"، تلك الأسرة التي جمعت بين الجشع والثروة، ومولت جيشه بسخاء، طمعًا في دعم السلطة لاحتكارها موارد المنطقة، وعلى رأسها الفراء الثمين الذي سماه الناس في ذلك الزمان الذهب اللين.

درّ الفراء على خزينة القيصر عُشر إيراداتها سنويًا، حتى صار "نفط القرن السادس عشر". وصارت كلمة سيبيريا مرادفة للفراء في ألسنة الناس، حتى أن بعض المؤرخين وصفوا التوسع القيصري شرقًا بأنه مطاردة للفراء أكثر منه مشروعًا سياسيًا أو عسكريًا، أشبه بحمى الذهب التي اجتاحت الغرب الأمريكي، حيث أضحت مطامع الثراء، بريقا يعمي الأبصار، تنهار بسببه عوالم الشعوب الأصلية، وتتلاشى أصواتها في صمت البراري والثلوج.

في القرن السادس عشر، حوّلت أسرة "ستروجانوف" تجارة الفراء إلى آلة حرب، تدفع بعجلة التوسع القيصري. ثروتهم التي تأسست على الفراء فتحت لهم أبواب القصور، ومكّنتهم من تمويل الحملات العسكرية، والحصول على امتيازات وإعفاءات ضريبية، ومنحتهم سلطة مطلقة على الأراضي التي يستولون عليها شرق الأورال. فأصبحوا يجمعون الضرائب من السكان المحليين ويحتكرون التجارة، كدولة داخل الدولة.

سيبيريا آنذاك كانت خزانة الفراء العالمية. من أعماق غاباتها وجبالها كانت تأتي جلود السمور والثعلب القطبي والسنجاب الرمادي، لتجد طريقها إلى قصور إنجلترا وهولندا وألمانيا، بل وإلى أسواق الدولة العثمانية والصين. وكانت هذه الثروة تحت يد "كوتشوم خان"، الذي تولى الحكم سنة 1563 بعد أن أطاح بمن دفع الفراء كجزية مذلة للقيصر.

"كوتشوم خان" أغلق هذا الباب، وواصل توجيه تجارة الفراء جنوبًا إلى خانيات آسيا الوسطى كبخارى وخيوة، متصديا لمطامع آل "ستروجانوف"، الذين سعوا لتحويل تدفق الثروة إلى خزائنهم وبيعها لأوروبا بأرباح تصل إلى ألف ضعف من سعرها. كان الفراء هو العصب الاقتصادي الذي حوّل أسرة "ستروجانوف" إلى قوة إمبريالية، ودفع دولة القيصر إلى عصرها التوسعي بلا هوادة.

وهكذا، قبل أن تصطدم السيوف على أبواب سيبير، كان الجشع يشعل نيران الحرب.

معركة البقاء: "كوتشوم" في مواجهة القيصر

لم يكن "كوتشوم خان" رجلًا يرضى بالخضوع أو يقايض كرامته بالذهب اللين، بل كان فارسًا من نسل أمراء القبيلة الذهبية، يرى في سيبير أرضًا حرة لا تُشترى ولا تُباع. وحين بدأ نفوذ آل "ستروجانوف" يزحف شرقًا مدفوعًا بمباركة القيصر، أدرك أن المواجهة قادمة لا محالة.

يقول علماء السياسة: وراء كل فعل سياسي حافز اقتصادي، وهكذا بدأ التوسع القيصري بعصب آل "ستروجانوف" من المرتزقة القوزاق المغامرين، بقيادة "يرماك تيموفيفيتش"، الذين احترفوا القتال، بدافع الثراء السريع. وكان لا بد من عباءة أيديولوجية تستر النوايا، وهنا تقدمت "الكنيسة".

صورت الكنيسة التوسع في سيبيريا كـ "حملة مقدسة" لنشر المسيحية بين "الوثنيين". وبما أن خانية سيبير بقيادة "كوتشوم خان" كانت مسلمة، صُوِّر الصراع كحرب بين الصليب والهلال.

عازمًا على إغلاق دروب الغزاة قبل أن تطأ أقدامهم قلب سيبيريا، أرسل "كوتشوم خان" فرسانه بقيادة ابنه الأكبر الأمير "علي خان"، ليرابطوا على الثغور البعيدة، حيث الريح تسبق الأخبار.

سقوط العاصمة: دم على نهر إيرتيش"

مستغلا غياب الفرسان في عام 1582 فاجأ "يرماك" سكان "قاشليق" بهجوم خاطف عبر نهر "إيرتيش" ، وبعد مواجهة دموية، قرب قلعة "تشوفاش"، تمكن "يرماك" من احتلال العاصمة، مرتكبا مذابح بحق السكان والقرى التتارية.

لم تكن المعركة فاصلة بعد، لكن الشرارة الأولى قد اشتعلت، وبدأت معها حكاية صراع طويل بين إرث الخانية القديمة، واندفاع المغامرين الرهيب، بين من يقاتل دفاعًا عن موطنه، ومن يزحف خلف مطامعه.

تتار سيبيريا – مقاومة مستمرة

على عكس ما جرى بعد سقوط قازان، حين أُسِر الخان الصغير واقتيد إلى موسكو، أبى "كوتشوم خان" آخر حكام خانية سيبير الاستسلام، بعد سقوط العاصمة، ونظم مقاومة باسلة ضد الغزاة، ناقلًا أرض المعركة إلى الغابات الكثيفة والأنهار المتجمّدة، حيث لا مكان لصفوف الجيوش المنتظمة، بل كمائن ومطاردات في الضباب الكثيف.

تصادمت السيوف تحت ضباب السهوب، وانطلقت رصاصات البنادق البدائية، فيما كان كل طرف يدرك أن هذه الحرب ليست على قلب "طريق الحرير" الشمالي وثروته التي لا تنضب فحسب، بل على الأرض ذاتها ومستقبلها.

خاض "كوتشوم خان" حربَ عصاباتٍ مضنية، تستنزف الجسد وتُنهك الروح، استطاع خلالها أن يُوقع "يرماك" في كمين محكم عام 1584 على ضفة نهر "فاغاي"، حيث قضى عليه، وعلى معظم قواته، وأصبح بذلك تجسيدا للشجاعة والبطولة في ذاكرة التتار الشعبية.
في برد سيبيريا القارس، كان صليل السيوف أثمن من كنوز الذهب.

ستة عشر عامًا من المقاومة المستحيلة
دخل "كوتشوم خان" عاصمته "قاشليق" مجددًا، لكن طريق المطامع قد فتح، ووجد نفسه لاحقا في مواجهة حملات قيصرية متوالية، مسلحة جيدا، وإمدادات بشرية متواصلة، ودعاية إيديولوجية، وخصم وظف "الديمغرافيا" لصالحه؛ وفوق ذلك ووجه بردة بعض القبائل المحلية.
وفي عام 1586، دخلت القوات القيصرية "قاشليق" مجددا، بعد انسحاب "كوتشوم خان" منها مؤثرًا تكتيك حرب العصابات، على المواجهة المباشرة. وفي الوقت نفسه، غيّر الغزاة تكتيكهم الحربي، عبر بناء سلسلة من التحصينات، وتنظيم موجات توطين للمغامرين، مع تهجير قسري للسكان الأصليين.

انسحب "كوتشوم خان" مجددًا لكنه لم يستسلم، مواصلًا هجمات الاستنزاف حتى عام 1598، حين وقعت معركة حاسمة على ضفاف نهر "أوب" قرب قرية "فيرخ-إيرمين" (محافظة نوفوسيبيرسك حاليًا)، حيث حوصر وهُزمت قواته، رغم بسالة استُشهد فيها ستة من أبنائه.

التاريخ لا يرحم، والأيام دول؛ يومٌ للمدافع ويومٌ للسيوف، وقد كان ذاك يوم المدافع، فأنهى عمليًا استقلال سيبير وخانية التتار الأخيرة، لكن جذوة المقاومة لم تنطفئ.

خارج زمنها، كانت خانية القرم وحدها باقية من شظايا القبيلة الذهبية، تحتمي بالعثمانيين، وتغزو موسكو خلال حكم "إيفان"، مسببًة له اعتلالًا نفسيًا، أفضى بالمحصلة إلى القضاء على أسرته ودولته.

"إيفان" الرهيب واندثار أسرة روريك

في العقد الأخير من حياته (من عام 1575 حتى 1584)، عاش "إيفان" الرابع تحت وطأة ظلال من الاكتئاب النفسي وجنون الريبة، وغاص في بحر من الشكوك التي ابتلعت عقله وقلبه. أي صوت معارض أو مشكك كان يثير جنون غضبه. بدأ ذلك بعد غزو "تتار القرم" الناجح لموسكو وإحراق ضواحيها.

الحاكم الذي بسط قبضته الحديدية على الجميع أصبح أسيرً هواجس الريبة والشكوك، واندفع في موجات غضبٍ، أصابت كل من حوله، كان من ضحاياها ابنه وولي عهده "فاديم"، الذي قُتل بأمره في لحظة جنون وريبة. كان ذلك الفعل أكثر من مجرد مأساة عائلية؛ إنه انعكاس لحالة ذهنية، انهارت فيها أواصر الدولة، ومهدت الطريق لانهيار السلالة التي حكمت موسكو قرونًا عدة.

عقب رحيل "إيفان الرابع"، آل العرش إلى ابنه المعتل "فيودور"، الذي لم يدم حكمه طويلًا. وبوفاته، انطفأ آخر جذع في شجرة "آل روريك"، تلك الشجرة العتيقة التي جفّت أغصانها وتهاوت أوراقها. وسرعان ما انحدرت موسكو إلى هاوية الفوضى، فانفرجت أبوابها للمحتلين البولنديين، واشتعلت البلاد بالاضطرابات، وتمزقت أوصالها بالصراعات والخيانات. هكذا دخلت روسيا إحدى أحلك صفحات تاريخها، في حقبة عُرفت باسم "عهد الاضطراب"، حيث لم يكن على العرش سوى الفراغ، وعلى الأرض سوى الدم والدخان.

لعنة العرش الروسي… من "روريك" إلى "رومانوف"

بعد أن أعادت أسرة "رومانوف" إلى روسيا شيئًا من الاستقرار عقب عهد الاضطرابات، بدا وكأنها قد نجت من مصير أسرة "روريك". غير أن لعنة السلالة القديمة، المجبولة على الظلم والدم والاستغلال، كانت ما تزال تترصد في الظلال. وحين هبّت عواصف الثورة، اجتاحت العرش كما اجتاحته من قبل، فمزقت أوتاد الحكم، وأطفأت شمعة آل "رومانوف" إلى غير رجعة. وهكذا أُسدل الستار على فصل كامل من تاريخ روسيا، في مشهد يجسد بحق المقولة العربية الخالدة: "العدل أساس الملك". ومن بين الركام، انفتح باب عهد جديد، لكنه عهد غامض، لا يَعِد إلا بمصائر مجهولة وأقدار لا تُقرأ ملامحها.

سقوط آل "ستروجانوف": من القصور إلى النسيان
بعد أن تراكمت ثرواتهم على دماء وأشلاء، وتحولوا إلى ركن أساسي في طبقة النبلاء وأذرع القياصرة، لم يبقَ من ذكرهم سوى طبق "البيف ستروجانوف" الشهير، فقد صودرت أملاكهم من قصور ومناجم وأراضٍ عقب انتصار الشيوعيين، وعاش آخر أفرادهم ذليلين بين فرنسا وإيطاليا، حيث انقطع نسلهم وتلاشى ذكرهم، وكانت آخرهم "يلينا ستروجانوفا" التي توفيت في باريس عام 1947 دون ذرية.

ولادة الأسطورة حكاية شعبية خالدة
حين انفرجت قبضة الحصار، اندفع "كوتشوم خان" مع ثلة من فرسانه نحو السهوب المترامية في قلب سيبيريا، ليتحول إلى أيقونة للمقاومة. ومن ذلك اليوم، صار اسمه يُردَّد كنداء في ذاكرة الشعوب.

لم تنكسر عزيمته أمام إغراءات العدو الذي عرض عليه إقطاعية مقابل أن يطوي راية المقاومة. أبى أن يبيع الأرض، فأبى التاريخ إلا أن يرفعه إلى صفوف الأبطال. لم يكن جيشه صغيرًا فحسب، بل كان يفتقر إلى دعم خارجي وتسليح عصري، ومع ذلك أعاق زحف القياصرة وأجّل – هو وأبناؤه وأحفاده – ابتلاع الشرق قرنًا كاملاً.

تباينت الروايات حول مصيره؛ فبعض المصادر التترية والروسية تذكر أنه انتهى به المطاف في بخارى حيث أسلم الروح، وأخرى تقول إنه لجأ إلى قبائل النوغاي شمال كازاخستان، أو إلى قبائل الباشكير شرقًا، بينما تميل كثير من المصادر إلى أنه حاول تنظيم صفوفه مجددًا قرب نهر "إيرتيش" غرب سيبيريا، قبل أن يقضي شهيدًا في نحو الثمانين من عمره. ظل موضع قبره لغزًا يتنازعه الشرق والغرب، من سهوب سيبيريا إلى تخوم كازاخستان.

قلق الغزاة
ظل اسمه جرحًا غائرًا في ذاكرة المستبدين، يخشون أن يؤجج ذكره جذوة المقاومة من جديد. ولأن التاريخ يكتبه المنتصرون، فقد نشروا حكايات تخفي المقاومة، وصوّروا هزيمته في موقعة "إيرمين" كنقطة نهاية، لكن المصادر التترية تذكر أن القتال استمر لعقود قبل أن يستقر الأمر للقياصرة.

ورثة المجد
انتقلت الراية إلى ولديه "علي خان" و"إيشيم خان"، فقاتلا في سهوب الرياح وغابات التايغا، يغيران على الحصون، ويزرعان في القلوب أملاً لا يذبل. وحين وقع "علي خان" في الأسر، رفع شقيقه "إيشيم خان" اللواء، ومن بعده جاء "آرطون" بن علي حفيد "كوتشوم خان"، ينازع القياصرة على ما تبقى من أرض الأجداد، ويغذي ذاكرة قومه بالقصص والملاحم.

لم تكن هذه معارك عابرة، بل صراعاً استمر قرناً من الزمان بعد سقوط الدولة. كان التتار وقود كل ثورة ضد القياصرة، من تمرد بوجان إلى ثورات التتار المسلمين في القرن الثامن عشر. ظلّوا يرددون كلمات كوتشوم الخالدة: "لقد كنتُ خان سيبير، ولو بقي لي شبر من الأرض لوقفت عليه حتى الموت!"

إرث لا ينتهي

اليوم، تُختزل هذه الملحمة في كتب التاريخ كـ "تمردات"، لكنها في الحقيقة كانت أعظم مقاومة في البراري الثلجية، يقودها أباة رفضوا أن يُدفن مجدهم تحت جليد النسيان. خسروا معركة، لكنهم كسبوا الذات.. وصارت سيبيريا تُذكر بهم كلما هبّت ريح الشمال.

ظلٌ لا يرحل
خمسة قرون مضت، وما زال صدى تلك الأيام يتردد في دفاتر التاريخ:" يرماك"، "كوتشوم خان" وأسرته. الجدل حولهم لا يخمد؛ ففي "تيومين"، ترفض السلطات بإصرار إقامة نصب تذكاري لـ "كوتشوم خان"، بينما نصبت صليبًا ضخمًا تخليدا لـ "يرماك". أما تمثال "سوزغا خانوم"، زوجته، فقد فجّر عاصفة من الجدل بلغت حدّ دفع أحد النواب للاستقالة، بعد أن تحدث عن زيارة المهاجرين إلى وطنهم التاريخي.

تلك كانت حكاية آخر خانية تتارية في أقصى الشمال، التي لقيت مصير قازان وأستراخان: تهجير جماعي، وإحلال سكاني، وقلاع جديدة تحرس المستوطنين، ونخبة محلية استرخصها ذهب القياصرة. مشهد واحد تكرر على امتداد السهوب والأنهار، يطوي بين طياته سقوط دول، واندثار شعوب، وبقي التتار في سيبيريا ثابتين على أرضهم وعهد الأجداد.

في الحلقة التالية: تحت وطأة القياصرة، والسوفييت.

مشاهدات في بلاد التتار – 3 المقال الأول

بقلم علي ابو عصام
------------------------------------------------------------------------------

مشاهدات في بلاد التتار – 3 المقال الأول: الأمناء على التقاليد في قلب الصقيع – تتار سيبيريا

خواطر من ومضات الذاكرة ولي الله يعقوبوف

"ميشار" نيجني نوفغورود: مآذن من رحم المعاناة

المستشرق المسلم: والي أحمد صدور وجهاد الفكر في أرض الثلوج

حديث الذكريات عن الشيخ إلياس حاجي الأقوشي

كيف حفظ "المجلس" هوية التتار من الذوبان؟

Автор: علي أبو عصام

تعليقات() النسخة المطبوعة

اضف تعليق

ابو نحلة 14-08-2025
Ответить

المقالة تمثل تحفة تاريخيّة وأدبية في آن واحد فقد نجحت - اخي الحبيب ابو عصام -في تحويل وقائع التاريخ الجافّة إلى مشاهد حيّة تنبض بالحركة، وكأن القارئ يشاهد فيلمًا سينمائيًا يتنقّل بين سهوب سيبيريا المتجمّدة وأروقة القصور القيصرية. بُني النص على سرد متين يستند إلى معلومات تاريخية دقيقة وموثوقة، مزجت فيها -ابا عصام -بين التحليل العلمي للأحداث وتوظيف اللغة الأدبية الموحية، مما أضفى على السرد بعدًا إنسانيًا ودراميًا عميقًا. الصور البلاغية والتشابيه تجعل القارئ يعيش أجواء المعارك والمقاومة، بينما حافظ المقال على التوازن بين عرض الحقائق وتقديم رؤية نقدية تفسّر السياق التاريخي والسياسي. هذه القدرة عل...
Читать дальше