في أعماق موسكو، حيث قصور الشعب السوفييتية، يلتقي التاريخ بالإبداع، والفن بالثقافة، وتغرق الوجوه في الكتب. هناك أدركت أن المترو لم يكن مجرد قطار يسير تحت الأرض، بل محرابًا يضيء القلوب، ومتحفًا يصون ذاكرة الناس. لم يكن وسيلة نقل فحسب، بل درسًا في معنى الثقافة والحياة: أن يكون الكتاب رفيق الطريق، وأن تكون القراءة عبادة صامتة تُوازن الروح وسط الضجيج.
حين وصلتُ موسكو في الثمانينيات، أصرّ بعض الأصدقاء من الحزب الشيوعي على أن يصحبوني، أنا القادم حديثًا، ومعي بعض الشباب من غزة، لزيارة أحد أعاجيب المدينة: مترو الأنفاق.
وقف دليلنا عند البوابات الإلكترونية وقال بجديةٍ مصطنعة:
"هذه لا تُفتح إلا إذا هتفتَ باسم لينين العظيم!"
فهتف أصحابي، بينما كان هو يُسقِط عملة الخمسة كوبيك لتُفتح البوابة.
انفجرنا بالضحك على المقلب، لكن الضحك ما لبث أن تحوّل إلى دهشة حين دخلنا أعماق المترو.
كان المشهد بسيطًا في ظاهره، لكنه ترك في قلبي أثرًا لا يُمحى: الركاب في مقاعدهم، وفي يد كلٍّ منهم كتاب، وجوههم غارقة في الصفحات، وعيونهم مشدودة إلى الكلمات. خُيّل إليّ أن القطار مكتبة عامة تسير تحت الأرض. ومع تكرار المشهد في كل رحلة، أيقنت أنني أمام شعب قارئ يرى في الكتاب جزءًا من هويته اليومية.
وبين الركاب المنهمكين في مطالعاتهم، كنتُ أتأمل أخانا التونسي محمد علي بن محرز (رحمه الله)، وهو يتلو من مصحفه الصغير بخشوع، فامتزجت في عيني صورة الثقافة بصورة الإيمان، وامتلأ المكان نورًا لا تراه العيون، بل تحسّه الأرواح.
رأيته كظلٍّ من الصحابة بقي على الأرض، كأن زمنهم امتد فيه بإيمانه وسمته وصدق تلاوته؛ شابٌّ متمسك بكتاب الله في ظلّ هذه المادية الطاغية، رددت في داخلي أبياتا تترجم حاله:
كلما أبصرتُ خوضات البشر، في متاهاتٍ تنوء بالفكر
قلتُ في عزّة من أوعى العِبر: لستُ أرضى الجاهلية.
وحين سافر، شعرت بفراغٍ كبير لا يملؤه إلا اليقين بأن أرواحنا تلتقي بورد الرابطة في كل مساء: اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد التقت على محبتك…
آخر رسالة وصلتني منه أوصاني فيها بالصبر، واختتمها بالآية الكريمة:
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾.
ترك في نفسي أثرًا لا يُمحى، فصرتُ أقلّده؛ أفتح مصحفي الصغير في عربات المترو، وأغوص في تلاوته صامتًا، فأشعر بالسكينة تنساب في قلبي كجدولٍ رقراق، وتغمرني راحة لا يعرفها إلا من ذاق حلاوة القرآن.
وذات مرة، جلست إلى جواري فتاة شابة، راحت تُحدّق في الكتاب بين يدي بدهشة، ثم همست بفضول:
– "ماذا تقرأ؟"
– "القرآن."
توقفت لحظة، ثم قالت بدهشة صادقة:
"لم أرَ أحدًا يقرأ مثل هذا من قبل… أهذه أحرف عربية؟ أحقًا تُقرأ من اليمين إلى اليسار؟"
راودني خاطر حذر، إذ لم يكن مألوفًا أن تبتدئ فتاة بالكلام مع شاب في المترو، لكن في صوتها مسحة براءة لا تخفى. أغلقتُ مصحفي، أجبتها باقتضاب، وابتسمتُ معتذرًا نازلًا في المحطة التالية، بينما كانت أسئلتها تتردد في ذهني كصدى بعيد... كأنها فتحت نافذة صغيرة في داخلي.
شعرت أنني أمام سؤال أعمق من فضولها: كيف نقدّم ديننا للناس ببساطة وصدق، من غير وجل ولا خوف؟
ولم أحتَجْ إلى وقتٍ طويل حتى بان الجواب أمامي واضحًا، في مواقف لاحقة أكّدت أن السلوك الحسن والكلمة الطيبة قادرتان على أن تبلغا القلوب.
وجريًا على هذه العادة الطيبة، تعاهد بعض الشباب العربي على حفظ القرآن ومراجعته خلال تنقّلاتهم في المترو. كانوا يهمسون بآياته في قلوبهم، كأن المترو مركز تحفيظٍ متنقّل. وفي وجوههم انعكست صورة الخشوع والسكينة… مشهدٌ عالق في الذاكرة، لا يغيب مهما امتد الزمن.
لم تكن القراءة في موسكو عادةً عابرة، بل رفيقًا يوميًا في السفر والانتظار. وقد لمستُ هذا المشهد أيضًا في المدن السوفييتية الأخرى: مينسك، وكييف، ولينينغراد، حيث كان أساتذتنا يفاخرون بأن الشعب السوفييتي أكثر شعوب الأرض قراءة. ولم يكن ذلك شعارًا أجوف، بل حقيقة تُرى في كل مكان: وجوه منغمسة في عوالم الكتب، ومحطات تتحوّل إلى صالات مطالعة.
كان المواطن السوفييتي يضع كتابًا في حقيبته كما يضع زاده اليومي. ترى الطوابير الطويلة أمام محال بيع الكتب، كأنها طوابير طلاب الهواتف الذكية في عصرنا.
وكذلك كنا نفعل؛ نحمل في حقائبنا كتبًا إسلامية نطالعها في الطريق، لكننا نُغلفها أولًا بورق الجرائد السوفييتية لنتفادى لفت الأنظار. كنا نقرأ في صمت، نشعر أن بين أيدينا كنزًا صغيرًا يخصّنا وحدنا، كنزًا يشدّنا إلى تراثنا وبلادنا البعيدة. وحتى أصابعنا، حين نغلق الكتاب، تبقى مطبوعة بأثر الحبر من تلك الصحف.
سألتُ الصديق محمد الوالي، من اليمن الحبيب، لماذا غلّفتَ الكتاب بورق الجرائد قبل أن تقرأه في المترو؟
الناس هنا لا يقرؤون العربية، وهو في النهاية كتاب…
ابتسم ثم قال: ألا تقرأ سورة الكهف؟ قلت: بلى. فقال: قف عند تنبيه أصحاب الكهف لصاحبهم الذي أرسلوه إلى المدينة… تجد الجواب.
ثم تلا بصوت خافت: ﴿وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾.
كنتُ أرى يوميًا وجوهًا تؤكد أن حب القراءة عادة ممتدة بين الأجيال، وأتمنى أن تنتشر هذه العادة في بلادنا.
ذات صباح، جلس قبالتي على مقعد المترو رجلٌ مسنّ، يضع نظارة سميكة، ويقلب صفحات رواية لتولستوي ببطء وثبات. كان الزمن يبدو متوقفًا عنده؛ لا هو في عجلة، ولا يلتفت حوله. في عينيه وقار السنين، وفي حضنه كتابٌ أثقل من حقيبتي. شعرت أن هذا القطار لا يجمع ركابًا فحسب، بل يجمع أجيالًا مختلفة توحّدها عادة القراءة، كأن الكتب وحدها قادرة على هزيمة الزمن.
وفي مرة أخرى، رأيت طفلًا صغيرًا يجلس بجوار والدته في القطار. كانت تقرأ من كتاب بين يديها، وهو يفتح كراسة صغيرة يقلّد حركاتها بدقة عجيبة، يتظاهر بأنه يقرأ مثلها، ثم يرفع رأسه بين حين وآخر ليتأكد من أنه يقلّدها كما ينبغي. كان المشهد أشبه بصورة رمزية عن انتقال العادات عبر الأجيال: جيل يغرس، وجيل ينبت، والكتاب هو البذرة التي تظل حيّة ما دام هناك من يقلّد ويقتدي.
وفي مدينة ألما أتا بكازاخستان، شدّني مشهد آخر: عند محطات الحافلات، كانت تنتصب رفوف صغيرة تحوي كتبًا متنوّعة، وبجانبها لافتة تقول: «استعر كتابًا… واقرأ، ثم أعده ليستفيد غيرك.» كانت صورة عابرة، لكنها حملت فلسفة كاملة: أن الكتاب رسالة محبة عابرة للأيدي والقلوب.
هكذا علّمني مترو موسكو: أن القراءة ليست تسلية، بل زاد يومي وعبادة صامتة تعيد للروح توازنها وسط ضجيج الحياة. ولعل سرّ ذلك أن المكان نفسه كان مهيّأً ليغري بالقراءة؛ انتظامٌ شبه أسطوري، هدوءٌ مريح، إضاءةٌ وافية لا تُتعب العين، ونظافةٌ لافتة جعلته يبدو كأنه صُمّم ليكون صديقًا للكتاب.
لم يعد المترو وسيلة نقل فحسب، بل قصر من رخام وفسيفساء؛ محطاته بقبابها العالية وزخارفها البديعة أشبه بالمتاحف: نظيفة كقاعة احتفالية، ساكنة كمسجد في الفجر. ولم يكن عجيبًا أن يُقال إن مترو موسكو هو الأجمل في العالم. وحتى التماثيل البرونزية في محطة بلوشاد ريفوليوتسي (ساحة الثورة) صارت جزءًا من حياة الناس؛ يلمسون أنف كلب أو كتاب تلميذة طلبًا للفأل الحسن.
في تلك المحطة نفسها، رأيت شابًا يقف لحظات أمام تمثال الجندي وكلبه. مدّ يده ومسح على أنف الكلب — الذي صار براقًا من كثرة ما لُمس — ثم أغمض عينيه كأنما يستنزل طمأنينة من عالم آخر. وبعد لحظة قصيرة، ابتسم بثقة، وانطلق مسرعًا نحو القطار.
حين مسح الشاب على أنف التمثال البرونزي، انسقتُ وراءه بدافع الفضول، فمددتُ يدي. بدا ملمسه لامعًا أملس كالحجر المصقول، كأن آلاف الأيادي التي سبقَتني تركت عليه وشمًا صامتًا من أثرها، فصار البرونز يروي حكاية لمسة وراء لمسة.
عندها أدركتُ أن الناس لا يمكن أن يعيشوا بلا دين، وأن الإيمان بالغيب جزء أساسي في تكوين النفس البشرية. فالإنسان، أيًّا كان موطنه وثقافته، يحتاج دائمًا إلى سند غير مرئي يخفف عنه قلق الحياة ويمنحه قوة للمضي قُدُمًا. إن في داخله عطشًا لا يرتوي إلا بالغيب.
رغم غزو الهواتف الذكية، لا يزال مشهد القراءة يتسلّل حتى اليوم: شيوخ بوقارهم، ومثقفون بجديتهم، وطلاب بشغفهم، يمسكون كتابًا ورقيًا أو قارئًا إلكترونيًا. إنها صورة حيّة تذكّرنا أن الثقافة الحقيقية لا تنقرض، بل تصمد في وجه الزمن، وتجدّد نفسها في كل عصر
وحين أسترجع تلك الأيام، أدرك أن أجمل ما منحني المترو لم يكن جماله ولا نظامه، بل تلك الحقيقة البسيطة: أن الإنسان يستطيع أن يحمل عالمه معه أينما ذهب. لقد كان المترو لنا محرابًا متحركًا في قلب موسكو، ونافذة نطل منها على أنفسنا، وديننا، وعالمنا.
والخلاصة كلها تختصر في كلمة واحدة: ليكن الكتاب رفيق دربك؛ فالدقائق التي تهبها له ليست وقتًا تقضيه، بل عمرًا آخر يثري حياتك.
بقلم علي ابو عصام
------------------------------------------------------------------------------
مشاهدات في بلاد التتار – 3 المقال الأول: الأمناء على التقاليد في قلب الصقيع – تتار سيبيريا
خواطر من ومضات الذاكرة ولي الله يعقوبوف
"ميشار" نيجني نوفغورود: مآذن من رحم المعاناة
المستشرق المسلم: والي أحمد صدور وجهاد الفكر في أرض الثلوج
حديث الذكريات عن الشيخ إلياس حاجي الأقوشي
كيف حفظ "المجلس" هوية التتار من الذوبان؟
IslamNews.Ru وكالة الأنباء
تسجيل الدخول ب: