في إسطنبول، وبقدر الله، كان لقاؤنا. وكان الموعد في مسجد السلطانة مهرماه، ابنة السلطان سليمان القانوني. واسمها بالفارسية يعني الشمس والقمر. ارتبط هذا المسجد بقصة طريفة من روائع المعمار سنان، الذي شيّد لها مسجدين يحملان اسمها: أحدهما في أدرنة كابي على الضفة الأوروبية، والآخر في أوسكودار على الضفة الآسيوية.
سمّى الأول "الشمس" والثاني "القمر"، إشارة إلى أنهما لن يلتقيا على هذه الأرض كما لا يلتقيان في السماء. لكنه أودع سرًّا هندسيًا بديعًا: ففي يوم ميلادها، الحادي والعشرين من مارس، تغرب الشمس خلف مئذنة المسجد الأوروبي، بينما يكتمل القمر في الأفق فوق مئذنة المسجد الآسيوي، فيطلان على بعضهما من بعيد… دون لقاء.
غير أنّ القدر شاء أن يجمعني في هذا المكان بلقاءٍ عزيز لم أكن أتوقّعه.
صديقي القادم من أقاصي جنوب الكرة الأرضية، وأنا القادم من أقصى شمالها. اربعون عامًا مرّت منذ أن افترقنا في أواسط الثمانينات، لم تجمعنا خلالها إلا لحظة عابرة حين كان لا يزال يعمل قبل هجرته من البلاد. ثم تفرّقت بنا السبل، وظلّت أخبارنا متناثرة في المجموعات والرسائل… حتى شاء الله أن يقرّب بيننا تحت قباب السلطانة مهرماه.
وما أجمل أن يكون اللقاء في مسجدٍ جمع الشمس بالقمر، ليذكّرنا أن لقاء الأحبّة لا تحجبه المسافات ولا تعوقه الأزمنة. لحظة التقت فيها العيون بعد طول غياب، فذابت السنين كأنها لم تكن، وعدنا شبابًا كما كنّا في موسكو.
تلاقينا في ساحة المسجد، فكان المشهد أشبه بعودة الغريب إلى بيته؛ لا عناقًا فحسب، بل استعادة عمرٍ كامل، تعانقت فيه الأرواح قبل الأجساد. وكان نسيم البوسفور يمرّ من حولنا، يحمل رطوبته العذبة، فيما أصوات المصلين تعلو في الساحة، فتزيد المشهد بهاءً وهيبة.
كان يومًا حافلًا قضيته برفقة أحد رفاق العمر، في مرحلة جميلة من حياتنا؛ أيام الشباب والدراسة. جلسنا نستعيد ذكريات الماضي، فحدّثني عن أيام الدراسة في معهد الاتصالات، وعما كان يواجهه الشباب المؤمن من صعوبات في بلد يتبنى الإلحاد، ثم عن الحملة التي شنّتها السلطات السوفييتية ضد الطلاب الملتزمين أوائل الثمانينات، وكيف أنعم الله عليهم بالثبات في وجه الفتن والابتلاءات.
كثير من القصص، وإن كنتُ عشتُ قريبًا منها وعاصرتُ بعض أحداثها، بدت لي جديدة كأنني أسمعها لأول مرة. كان حديثه أشبه بدفقٍ من أوراقٍ محفوظة في صندوقٍ قديم فُتح على عجل، فإذا بالأصوات والوجوه والأماكن تحلّق من جديد. ومع كل كلمة كان الحنين يزداد، وكأن الزمن قد أفاق من سباته، ينفض الغبار عن نفسه ويستحضر أسماء الرفاق واللحظات التي ما زالت تدفئ القلب بذكرها.
وكعادته، في تلك الأيام الخوالي، لا يخلو مجلسه من المحبين؛ فتجده عامرًا بالأصدقاء دائمًا. في ذلك اليوم عرّفنا على أخ تركي عراقي، ثم جاء إمام ومقرئ كانوا قد استضافوه لأداء التراويح في رمضان الماضي، وينتظرون قدومه مجددًا هذا العام.
كما حضر تاجر تركي من معارفه للسلام، وحدّثنا عن أيام دراسته في مدارس إمام خطيب، ثم أسرّ لنا بخبر برنامج مبتكر لحفظ القرآن الكريم في ثلاثة أشهر، تشرف عليه داعية تركية في إحدى الكليات.
وفي حضرة هذا الجمع الطيب، انسابت بنا الأحاديث إلى الوراء، إلى موسكو الثمانينات. وكان هذا الحديث، إلى جانب التعرّف على الأصدقاء الجدد، من أجمل ما جرى في جلستنا تلك؛ ذكريات صافية عن زمن الاتحاد السوفييتي، عن أيام الصدق والإخلاص والثبات، أعادها القدر إلينا على ضفاف البوسفور.
ومن هنا تبدأ الحكاية…
يقول صديقنا: قدّر الله تعالى أن تكون وجهتي الدراسية إلى الاتحاد السوفييتي، حيث ابتعثتني الدولة لأكمل دراستي هناك.
كان وقع الخبر عليّ كالصاعقة. والحق أن قلبي لم يكن ميّالًا إلى بلد شيوعي مغلق، بل كنت أحلم ببريطانيا، بجامعة كامبريدج مثلًا أو إحدى الجامعات الغربية العريقة. لكنّ أقدار الله شاءت غير ذلك، وكان في الأمر خير لا يعلمه إلا علام الغيوب.
لا أنسى تلك اللحظة حين نطقوا باسم الوجهة:موسكو. وقع الكلمة في أذني كان ثقيلًا، تبعها رعشة في القلب وصمتٌ خانق. تلفّتُّ فإذا وجوه جامدة ومكاتب باردة ولا مبالاة قاتلة.
قمت يومها وتوضأت، ثم صليت صلاة الاستخارة ورفعت يديّ إلى السماء أدعو:
"اللهمّ إن كان في هذا الأمر خيرٌ لي في دُنياي وآخرتي فاقدره ويسّره لي، وإن لم يكن خيرًا فاصرفه عني".
كنت أستحضر أنني أضع حياتي كلها بين يدي الرحمن، راضيًا بما يكتب. انهمرت دموعي مع كلمات الدعاء، وارتجف قلبي كأنني أودّع حياة وأستقبل أخرى.
وفي غمرة الخوف، اندفعت أقول: " إن لم يكن في ذلك خير، فأسقط الطائرة بي قبل أن أصل." لم أكن أدرك آنذاك أن سقوط الطائرة يعني هلاك آخرين معي، لكنني أردت التعبير عن شدة خوفي وتعظيمي لأمر ديني.
هكذا كان الدين حاضرًا في قلوبنا، عزيزًا علينا، نرى الدنيا كلها دونه هباءً. وما كنت أعلم أن تلك البعثة ستفتح لي أبوابًا لعالم جديد، وأن موسكو التي نفرت من اسمها أول الأمر ستملأ قلبي بذكريات لا تُنسى، ذكريات ستظل تنبض في وجداني ما حييت.
ومنذ تلك اللحظة، وجدت نفسي في رحلة لم أخطط لها… لكنها صارت أعظم فصول عمري.
بعد وصولنا إلى موسكو، نقلونا إلى بلدة صغيرة قريبة تُدعى نوفوموسكوفسك (Novomoskovsk)، أي "موسكو الجديدة"، لنقضي فيها عامًا كاملًا نتعلّم اللغة الروسية قبل أن نكمل الدراسة في العاصمة.
كانت بلدة وادعة هادئة، أقرب إلى الريف، يغشاها برد الشتاء الطويل، وطرقاتها الضيّقة تحفّها بنايات رمادية متواضعة، يخيّم عليها صمت غريب لا يقطعه إلا صرير الثلج تحت الأقدام.
سكنتُ مع إخوة أعزاء في غرفة صغيرة ذات ثلاثة أسرّة ومكتب متواضع. كان منهم عبدالله– الذي صار لاحقًا أستاذًا كبيرا في الهندسة وناجي.. جمعتنا الصحبة على طاعة الله، وكانت أيامنا في نوفوموسكوفسك مزيجًا من قسوة الغربة وحلاوة الأخوة.
وللغربة امتحاناتها، بعضها في قسوة البرد، وبعضها في فتنة القلب. من أغرب ما وقع لي آنذاك أنني رأيت فتاة روسية فاتنة الجمال. لمحْتها أول مرة أمام الجامعة، ثم صرت أراها في كل مكان! في يوم واحد صادفتها أربع أو خمس مرات في مواقع متفرقة، واستمر الأمر أيامًا. أسرني جمالها حتى قلت لزملائي في الغرفة:
– "أريد أن أتزوجها!"
نظروا إليّ بدهشة: "من تقصد؟"
قلت: "تلك الفتاة التي أراها منذ أيام… كأنها مكتوبة لي."
فقالوا محذّرين: "يا رجل، هي غير مؤمنة، ولا تحل لك."
قلت محتجًا: "هي من أهل الكتاب!"
قالوا: "أيّ أهل كتاب؟ هؤلاء ملحدون لا يؤمنون بدين!"
وبينما كنت حائرًا بين الرغبة والخوف، جاء ما أعادني إلى الجادة..
كنا نصلي المغرب جماعة ثم نجلس نذكر الله. في تلك الليلة أخرجت شريطًا للمنشد أبي الجود ووضعته في المسجّل، فانطلق صوته الشجي: «أخي يا قوة عظمى…». عمّ الصمت، وغمرت الكلمات قلوبنا. أحسسنا أن أرواحنا ترفرف مع النغم.
بعد نصف ساعة من الاستماع، قفزت من سريري أقول بحسم: "والله لن أتزوجها بما أنها ملحدة!"
ابتسم الإخوة وقالوا: "ألم تقل إنها من أهل الكتاب؟"
أجبتهم بثبات: "يستحيل أن أتزوج ملحدة. والله هذا لا يكون."
كانت تلك اللحظة علامة فارقة في حياتي، أدركت فيها أن الكلمة الصادقة واللحن الملتزم يمكن أن يغيّر مجرى القلب، بعد حيرة واضطراب..
تلك الحادثة البسيطة في السنة التحضيرية في نوفوموسكوفسك كانت البذرة التي أينعت لاحقًا، حين نظمت مهرجانًا سنويًا للنشيد، جمعت فيه كبار المنشدين من أنحاء العالم الإسلامي، وكان يحضره ما يزيد على سبعة آلاف مسلم. وفي ختام المهرجان كنّا نجمع التبرعات لكفالة العشرات من الأيتام في شتى البلدان.
هناك، وسط الأضواء والجموع والأصوات الشجية، كان قلبي يعود بي إلى تلك الغرفة الصغيرة في نوفوموسكوفسك؛ غرفة بسيطة متواضعة، جلسنا فيها يومًا نستمع إلى شريط إنشاد، فهزّت الكلمات أرواحنا وغيّرت مسار قلبي.
أدركت أن للنشيد، بكلماته الصادقة وألحانه الملتزمة، سحرًا خاصًا، وأن أثره في النفوس – وخاصة عند الشباب – يفوق الوصف. ومن تلك اللحظة تبيّنت أن ما يبدأ بذرةً في زاوية صغيرة قد يكبر مع الأيام ليصير نورًا يملأ القلوب، ويكفل آلاف الأيتام حول العالم.
بعد انتهاء السنة التحضيرية رجع كلٌّ منّا إلى بلاده لإجازة الصيف. وأذكر أن العطلة صادفت شهر رمضان، وكان النهار في روسيا في تلك الفترة طويلًا جدًا. جاء موعد الإفطار مع إقلاع الطائرة، فأخرجنا طبق "مقلوبة" كنا قد أعددناه خصيصًا لنفطر عليه، وبدأنا نأكل والطائرة لا تزال تحلّق صعودًا.
اقتربت المضيفة متعجّبة وقالت:
– "يا شباب، تريثوا قليلًا، انتظروا، وسنحضر لكم وجبة ساخنة بعد قليل."
لكننا، وقد صمنا أكثر من عشرين ساعة، لم نلتفت إلى كلامها وواصلنا طعامنا.
كانت الرحلة في تلك الأيام تمرّ بعدة محطات قبل أن تعود قافلة إلى موسكو، كأنها حافلة تجمع الركاب من الطرقات. وصلنا بلادنا في الليل قبيل الفجر، وتعجبت من نفسي: أفطرتُ في روسيا، وتسحّرتُ من طعام أمي في بيتنا.
وبعد انقضاء عطلة الصيف، عدنا إلى موسكو لنلتحق بمعهد الهندسة فيها.
كان شعور العودة مختلفًا؛ في المرة الأولى كنت غريبًا مرتبكًا، بالكاد ألتقط كلمة روسية. أمّا الآن فقد صرت أقرأ اللوحات في الشوارع، وأفهم ما يقوله الناس من حولي، وأتحدّث – وإن بلكنة متعثّرة. كان ذلك يمنحني شيئًا من الطمأنينة، دون أن يبدّد رهبة المكان.
كان سكننا الجامعي قائمًا في ضاحية هادئة على أطراف موسكو. مبنى رمادي قديم، نوافذه العريضة تمتد كأنها تتشبث بما يتاح لها من خيوط النهار. وفي الشتاء كنا نعبر طرقات ضيقة يغلّفها الصقيع الكثيف، فيما البرد القارس يتسلل من تحت الملابس الثقيلة بلا رحمة.
في الداخل، كان الجو أكثر دفئًا، ليس بفضل التدفئة المركزية فحسب، بل بفضل الصحبة الطيبة. كانت الغرفة تضجّ بالحديث أحيانًا، وتصمت حين ينشغل كلٌّ منّا بكتبه أو رسائله. لم يكن السكن مجرد مكان للراحة، بل غدا بيتًا صغيرًا في غربة كبيرة.
أكثر ما لفتني أن الطالبات كنّ يسكن معنا في المبنى نفسه؛ غرفهن إلى جوار غرفنا، ويستخدمن المطبخ المشترك والحمّام ذاته في أسفل السكن. وكانت تلك فتنة عظيمة لشباب في مقتبل العمر، لا عاصم منها إلا لمن استمسك بحبل الله وجعل الآخرة مبتغاه. كنت كثير الدعاء: «اللهم يا مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على طاعتك». ولهذا حرصت على دوام زيارة الأصدقاء الذين يذكّروننا بالله، وخاصة الزملاء من معهد الطاقة القريب.
هناك تعرّفت على إخوة من تونس ولبنان وفلسطين والأردن: صالح، حمد، غالب، وعدنان. وكانت لقاءاتي بهم تبعث في النفس طمأنينة، وتذكّرني بأنني لست وحيدًا في هذه الغربة، وأن إيمانًا يملأ الجوارح قادرٌ على صدّ الفتنة الطاغية.

كنّا نلتقي مع بقية الزملاء والأصدقاء من معاهد موسكو أيام الآحاد في مسجد بروسبكت ميرا لنصلي الظهر معًا. وكان المسجد بالنسبة لنا أكثر من محراب؛ كان واحةً من دفء الإيمان في قلب مدينة فاتنة مرهقة.
هناك تعرّفنا على إخوة من تتار موسكو، وكذلك على زوّار قدموا من مدن أخرى. ففي أحد الأيام التقينا ضيفًا من لفوف، وفي يوم آخر كان الضيف من خاركوف. وبعد الصلاة كنّا نجلس نتجاذب أطراف الحديث، وكان صديقنا عدنان يعقد درسًا أسبوعيًا.
وذات مرة أقمنا احتفالًا بالمولد النبوي الشريف، ألقى فيه عدنان درسًا قيّمًا عن المولد وعن دور الشباب في حمل الدعوة في بدايات البعثة، ثم ترجم أحد الإخوة الأردنيين كلماته إلى الروسية بطلاقة. وبعدها ارتفعت أصواتنا مع الأنشودة العذبة: «يا نبي سلام عليك…». كان الجو مهيبًا مؤثرًا، وشعرنا أن ما يجمعنا أكبر من غربة العلم؛ إنها الأخوّة في الله التي تُلغي الحدود والمسافات.
وفي تلك الفترة تعرّفت على فتى يافع في سن المدرسة هو محمد التتري، وكان والده يعمل في المسجد آنذاك. وقد التقيته لاحقًا وهو يتعلّم العربية في شقة صديق تزوّج من تلك البلاد. أقمت عنده أيامًا قبل أن أستلم غرفتي في السكن، فكان ذلك أول بيت يفتح لي أبوابه في موسكو.
في قاعات الدراسة كانت البداية قاسية؛ فلم نحظَ بأي امتياز لكوننا أجانب، بل كانت المحاضرات للجميع – روسًا وأجانب – بالصرامة نفسها. الأساتذة لا يعرفون المجاملة: يدخل الأستاذ بوجه جامد، يشرح بلا توقف، يلقي الأسئلة فجأة، ثم يملي ما يريد. وكنا أحيانًا نضحك بيننا من صعوبة بعض الكلمات التي بالكاد نلفظها، لكننا كنّا نشدّ على أيدي بعضنا، نتعلم ونصبر.
لاحقًا تعوّدنا على ذلك الإيقاع الصارم، وصرنا نسبق كثيرًا من زملائنا الروس في التحصيل.
ولم تكن أيام المعهد مجرد تحصيل علمي؛ بل كانت مدرسةً للحياة، نختبر فيها إرادتنا، ونصنع فيها روابط ستظل تضيء ذاكرتنا بعد عقود. ففي موسكو لم نتلقَّ التخصّص الهندسي فحسب، بل تعلّمنا كيف نتصل بالله ونحفظ بعضنا بعضًا، رغم برد الغربة وقسوة الأيام..

كانت هناك في موسكو أسرة كريمة من التتار، عائلة العم حسين آبي رحمه الله تعرفت إليهم عن قرب. لهم ثلاث بنات في المدرسة: راميلة ونائلة وعدلية، وولد صغير في الروضة اسمه علي. كنت أزورهم بانتظام لتعليم الصغيرات العربية والقرآن.
صبيحة كل أحد، باكرا، كنت أخرج من سكني إلى حيث يقيمون قريبا من محطة مترو "جدانوفسكايا"، ومنها أستقل "المارشروتكا" – تلك الحافلة الصغيرة المزدحمة دائمًا – وأنزل قريبًا من بيتهم، ثم أسير إلى مدخل البناية حيث يسكنون. أذكر أنهم كانوا في شقة بالدور الرابع.
كانت الأم دقيقة وحذرة، تدرك طبيعة الظروف في موسكو آنذاك، فكانت توصيني دائمًا:
— "لا تنزل على الدور الذي فيه شقتنا مباشرة، بل انزل في الأعلى أو الأسفل، ثم اصعد أو اهبط الدرج. ولا تدقّ الجرس، الباب سيكون مفتوحًا، ادفعه وادخل."
وهكذا كنت أفعل، في الذهاب والعودة، حتى لا يلفت أحد الانتباه.
ما زلت أذكر دفاتر البنات جيدًا: خطوطهن الأولى، محاولاتهن في كتابة الأحرف العربية. ما زلت أحتفظ ببعضها في بيتي في سيدني، كأنها رسائل من زمن بعيد. وربما، بعد أكثر من أربعين سنة، لا تزال تلك البنات يذكرن معلّمًا عربيًا كان يأتي إليهن محمّلًا بشغف العلم وسط قلب موسكو.

في أغسطس 1981 اتُّخذ القرار بفصل صديقنا حمد من الجامعة، وكان في السنة الخامسة – سنة التخرّج. حاول أن يماطل أيامًا ويتوارى، ريثما تتدخل سفارة بلاده وتحلّ الأمر. أراد أن يبتعد عن الجو المشحون، فتوجّه ليقيم عند أصدقاء في جامعة الصداقة في منطقة يوغو-زابادنايا (الجنوب الغربي). لكن رجال الأمن اليقظين قبضوا عليه في محطة المترو قبل أن يصل وجهته، واقتادوه كما لو كان مجرمًا إلى غرفته في السكن، وقالوا ببرود "اجمع أمتعتك، سننقلك الآن إلى المطار."
كنتُ في ذلك الوقت في غرفة صالح نتناول العشاء، فقال لي الإخوة:"أنت وجه جديد وغير معروف، اذهب إلى غرفة حمد وأحضر الكتب قبل أن تضيع." صعدتُ إلى غرفته، فرأيت المشهد المريع: ضباط لا مبالين يحتلون الغرفة المقابلة، يلعبون الورق ويضحكون، غير واعين أنهم يتلاعبون بمصير طالبٍ تُسلب منه سنوات العمر، فيما هو يجهّز حقائبه ليُقتاد إلى المطار.
أبعدوه بلا ذنب، بلا تهمة أو محاكمة، ودون أن يمنحوه أي وثيقة تثبت سنوات دراسته. أرادوا أن يمسحوا مستقبله كما لو لم يكن. لكن الله سلّمه؛ فقد احتفظ بدفتر الزاتشوتكا (دفتر الدرجات). وحين عاد إلى بلاده ترجم الدفتر وصدّق الترجمة، مما أتاح له أن يكمل سنته المتبقية في الجامعة هناك ويتخرّج بنجاح. وهكذا، كان وعد الله حقًا: ﴿وَاللَّهُ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾.
وفُصل كذلك أخونا الحبيب صالح. لكنه تلقّى القرار بالتسليم والصبر، ثم دبّر أمره ليكمل دراسته في أوروبا. التقيتُ به يوم وداعه، فقلت له: "أرسل لنا عنوانك ورقم هاتفك حين تصل، فقد نضطر أن نلحق بك إن فصلونا." ابتسم بهدوء وقال: "توكلوا على الله، وضعوا ثقتكم به، فلن يخذلكم."
استقرّ لاحقًا هناك، وأكمل دراسته حتى أصبح مديرًا لمركز إسلامي كبير، ومن أركان العمل الإسلامي في أوروبا.
عدنان
أما صديقنا عدنان – الأخ الداعية المربي – فقد فُصل أيضًا من الجامعة بلا جريرة ولا ذنب، وكان من المتفوّقين، ولكن ذلك لم يشفع له عندهم. كان صديقًا عزيزًا قريبًا من القلب، أحبه كل من عرفه، وكنا نلتقي في المسجد أسبوعيًا لنقرأ القرآن ونتدارس التفسير.
ويوم بلغني خبر فصله، وقع ذلك علي كالصاعقة. ذهبت إلى غرفته في سكن الطاقة لأواسي نفسي قبل أن أواسيه. قلت له: "لا تحزن، سيجعل الله لك مخرجًا." فأجاب مبتسمًا بثقة المؤمن: "يا أخي، فصلي من الجامعة أمر بسيط. كنت، حين رأيت حقدهم، أتوقع أن يدهسوني بسيارة على الطريق! فالفصل مقارنة بذلك هيّن بإذن الله."
انتقل بعد ذلك إلى الولايات المتحدة، وواصل دراسته حتى نال الماجستير، وكانت له بصمة مميزة في العمل الإسلامي هناك.
حين زرت عدنان ذلك اليوم لم أترك بطاقة الطالب " الستود بليت" عند الحارس كما تقتضي تعليمات السكن. وبينما أنا عنده، داهمنا مسؤولو السكن. سألوني بغلظة: "ماذا تفعل هنا؟" فأجبت مرتبكًا: "أزور زميلي" وكانوا يعلمون أنه مفصول، فقالوا: "انزل وسجّل بطاقتك."
شعرت أني وقعت في الفخ؛ إذ كنت من معهد آخر، ومن بلد آخر، وأزور زميلًا مفصولًا… هل يعني هذا أني دخلت الآن القائمة السوداء؟! كنت أحمل جواز سفري، فقلت في نفسي: "سأعطيهم الجواز، فالاسم فيه بالإنجليزية، مختلف عن الروسية، ولن يدركوا الفرق." وبينما أخرجه من جيبي، سقطت بطاقة الطالب على الأرض. التقطوها بسرعة وقالوا: "لا نريد جوازك، نكتفي بهذه البطاقة." حينها همست في قلبي: "لقد وقعت!"
عدت قلقًا، وأمضيت الليل أفكر: كيف سألتحق بصالح في أوروبا؟ وفي اليوم التالي دخلت قاعة الدرس، وخرجت منها وكأنني أعيش على حافة المجهول. لكن الله لطف بي، فكان المسؤولون في معهدي أكثر وعيًا، فلم يتعرضوا لي، وبقيت أواصل دراستي.
كنتُ قد استخرجت تأشيرة لزيارة أصدقائي الذين كانوا قد درسوا معي في السنة التحضيرية، وكانوا يقيمون في مدينة صناعية بعيدة. كان بينهم الصديق الخلوق مخلد – رحمه الله – الذي تعرّض هو الآخر للفصل التعسفي. غير أنه لم يستسلم؛ بل واصل طريقه، وتوجه لاستكمال دراسته لاحقًا في الولايات المتحدة، حيث التحق هناك بصديقنا عدنان وأتما معًا مسيرتهما العلمية.
وهكذا جمعت الغربة بينهما من جديد، ولكن هذه المرة في بلاد بعيدة وراء المحيط.
لم يكن زملاؤنا المفصولون قد ارتكبوا جريمة، ولا هددوا أمنًا، ولم يتآمروا على البلاد، ولم يحملوا في قلوبهم ضغينة أو حقدًا، ولم يفعلوا ما يستوجب عقوبة قاسية كتلك. ومع مرور الوقت تبيّن لنا أن بعض تلك القرارات إنما صدرت نتيجة مكرٍ وتهويلٍ من رفاقٍ من أبناء جلدتنا؛ إمّا لقصورٍ في عقولهم، أو لحقدٍ دفينٍ في نفوسهم، وقد صدّقهم – للأسف – بعض المسؤولين.
غير أنّ تدخّل السفارات كان أحيانًا يعيد الأمور إلى نصابها، فيخفّف الظلم أو يرفعه. وقد شهدنا ذلك مع الزميل رمضان التونسي، والصديق إقبال الباكستاني؛ فكلاهما كاد يُقصى عن دراسته، لولا مساندة سفارتي بلديهما، ففُتح لهما الطريق من جديد، وأُتيح لهما أن يُكملا تعليمهما حتى تخرّجا بحمد الله.
وبسبب ذلك الجو المشحون بالمؤامرات والوشايات، فقدنا مجموعة من خيرة الأصحاب، بلغ عددهم خمسة عشر طالبًا. طُردوا جميعًا لا لذنبٍ إلا تمسّكهم بدينهم. كانوا في الغالب من طلاب معهد الطاقة، ومن جنسيات شتّى: الأردن، وتونس، وفلسطين والسودان واليمن … زهورًا نديّة اقتُلعت من بستان موسكو، لكن عبيرها ظلّ يفوح في قلوبنا مهما تباعدت بهم المنافي.
وأما نحن الذين بقينا، فكنا نعيش كل يوم بقلوب معلّقة بالله، نترقّب المصير ونسلّم الأمر له سبحانه. نلوذ بجنابه الكريم، نتحرّك بين خوفٍ ورجاء، نرى في حفظه سترًا، وفي قضائه لطفًا، وفي حماه كنفًا رحيمًا يظلّلنا.
في كل رأس سنة كنت أجمع الإخوة في غرفتي. نبيت الليل في صلاة وذكر، نحتمي من شرور ليلة تُسكب فيها الخمور وتُرتكب المعاصي. كنت أعدّ الطعام والعصائر، ونسهر في أجواء إيمانية ومسابقات ثقافية حتى الفجر. استمررنا في هذه العادة ثلاث أو أربع سنوات، وكنتَ شريكنا فيها. كانت ومضات من نور في ليل موسكو الطويل.
كان الأخ محمد علي التونسي – رحمه الله – يدرس في جامعة الصداقة، وكان يكبرنا سنًا، كان أخًا فاضلاً كريمًا، يتفقدنا بزياراته في الله، ويملأ لقاءاتنا دفئًا وودًا.
زارني ليلة امتحان مهم. قلت في نفسي: "أليس من القبح أن يشرب الشاي فقط ثم يرجع؟" فأخرجت أرنبًا من ثلاجتي، وكنت أذبح أراتب كثيرة في تلك الأيام، جهزته، ووضعته في الفرن.. أكلنا وصلينا وشربنا الشاي، وعاد من زيارتي مسرورًا. بعدها دعوت الله أن يبارك لي فيما تبقى وقتي. ذاكرت حتى الصباح، ودخلت الامتحان فأجبت مباشرة فور استلام الأسئلة، نلت العلامة الكاملة وخرجت. كأن الله جل شأنه يقول لي: ما ضاع وقتٌ أُعطي في سبيلي، علمت أن الله بارك لي جزاء ضيافة أخي. ولقد أنهيت دراستي بمرتبة الشرف ونلت الدبلوم الأحمر بحمد الله.
ذات مرة دعانا الصديق عمر – أنا وزميلي في السكن – إلى غداء، وأوصانا ألا نتأخر، لأنه سيعدّ أرنبًا يفضّل أن يؤكل وهو ساخن. غير أنّ الحارس عند مدخل سكنه اعترضنا ومنعنا من الدخول. تبادلنا نظرات سريعة، ثم ابتسمنا وقلنا له مازحين: "لن يضيعوا علينا أرنبك بقوانينهم!"
ولم نطل الانتظار؛ إذ خرج عمر يحمل بطانية، وفرشها تحت شجرة في الحديقة القريبة المطلة على نهر موسكو، ثم جاء بالأرنب المشوي. جلسنا هناك في الهواء الطلق، والنسيم الخريفي المنعش يهبّ من جهة النهر، نأكل ونضحك، فتحوّل المنع إلى طرفة وذكرى ممتعة ما زالت عالقة في القلب.
وأما شوربة العدس التي كان يتقن صنعها بالكزبرة على طريقة والدته، فقد بقي طعمها حيًا في الذاكرة لا يُنسى. كان عمر شابًا شهمًا كريمًا، مضيافًا، يجمع بين خفّة الروح وصدق المودّة، فحفر لنفسه مكانة عزيزة في قلوبنا
الغربة جمعتنا على موائد الإخوة من كل صوب. كان الإخوة اليمنيون، وفيهم صديقنا حسين– رحمه الله – صاحب القلب الطيب والدعابة المرحة، يدرسون في جامعة الصداقة بين الشعوب بالجنوب الغربي من موسكو. الطريق إليهم بالمواصلات يستغرق ثلاث ساعات كاملة، ومع ذلك كنا نقطعها شوقًا إلى صحبتهم وموائدهم العامرة. كانوا يبدعون في إعداد "الصيادية" السمكية، ويقدّمونها مع "العشار اليمني" اللذيذ – ذلك الليمون المحشو بالفلفل والمخلل – بطعمه الحاد المالح الذي يسيل له اللعاب، يجمع حرارة الجنوب ونكهة البحر.
أما زملاؤنا التونسيون فكانوا يسكنون معنا في السكن نفسه، قريبين من قلوبنا كما من غرفنا. وكان منهم سالم ومنصف، اللذان كانا يكرماننا بالكسكس التونسي؛ قدر واسع يغلي على مهل، تتصاعد منه أبخرة عبقة، ويقدَّم ساخنًا تعلوه طبقة من الخضار واللحم المطهو ببطء، وإلى جانبه "الهريسة" التونسية الحمراء، الحارة التي تلسع اللسان وتوقظ الحواس.
كنا نجلس حول طبق الكسكس متحلقين، تتناغم أصوات الملاعق وهي تقرع أطرافه كأنها لحن خفي. وكانت الجُمعة – بدفئها ومرحها – تبعث في القلوب بهجة ومودّة، وتردّد فينا صدى بلادنا البعيدة، كأننا نعود لحظات إلى أوطاننا.
وهكذا، من بُعد المسافات أو من قرب الجوار، تحوّلت أطعمة الغربة إلى جسور محبة، ومعها تعزّزت روابط الأخوة التي جمعتنا من بلاد وأصقاع مختلفة، كأن مائدة صغيرة في موسكو اتّسعت لتضمّ الأمة كلّها.
تلك الحقبة عشنا فيها سموًّا ورفعة في العلاقات بيننا، محبةً ورباطًا يجمعنا كعلاقة الأخ بأخيه؛ رباط الإيمان والعروة الوثقى، أمتن من كل رابطة دم أو وطن أو عشيرة. وكان أخٌ من تونس أو من الهند أو من البنغال يسكن قلبك بمودّة لا يعرف لها حدًّا. والله لقد ذقنا في تلك الأيام حلاوة الأخوّة بكل معانيها.
زارني صديق من مدينة زابوروجيه، فأعددت له صيادية فاخرة في وعاء قازان استعرتُه من زملائنا الطلاب الأوزبك. وبعد صلاة المغرب ذهبنا لزيارة صديق آخر في معهد الطرق، كان قد عاد من بلاده يحمل معه حلويات شرقية معتبرة، أكرمنا بها وجلسنا عنده نتسامر.
وفي طريق العودة إلى السكن، وقبل أن أصل، أصابني مغص شديد. وصادف ذلك وصول شقيقي من مدينة أخرى، فبادر بالاتصال بالإسعاف. أعطوني دواءً جعلني أستفرغ، ثم أصرّوا على نقلي إلى المستشفى. لكني رفضت بعناد، إذ خفت من الفتنة؛ فقد سمعت قبل ذلك قصة أحد الشباب الذي أغوته ممرضة لعوب وهو على سرير الشفاء، فكان لذلك أثر سيّئ على دراسته ومسيرته.
ألحّ المسعفون على نقلي، لكني تمسكت بموقفي ووقّعت ورقة تحمّل المسؤولية. وبقيت أقاوم الألم حتى زال بحمد الله. وحين أشرقت نفسي بالسلامة بعد العسر، حمدت الله أن مرت الأزمة بسلام.
أشد ما ابتُلينا به في تلك الغربة كان فتنة النساء. كنّ يسكن معنا في المبنى نفسه، يتجوّلن في الممرات بملابس المنزل "الخَالاط"، الذي لم يكن يستر أجسادهن، بل يبرز مفاتنهن. كانت أعصابنا على المحك، ولولا بقية إيمانٍ يتّقد في القلب، لذابت النفوس في هوى الشهوات.
وكانت الفتنة تطرق الأبواب أحيانًا، في هيئة ابتسامة أو كلمة عابرة، حتى كادت القلوب تهتزّ. لكن لطف الله كان أعظم، يصرفها عنا ببركة الإيمان.
ذات ليلة، طرقت بابي إحداهن وقالت بدلالٍ: بلهجة تودد روسية أحتاج كبريتًا». ابتسمت وصرفتها قائلاً: "أنا لا أدخّن." وكنت قد احتطت لنفسي بحيلة صغيرة؛ إذ ادّعيت أنني متزوج، ووضعت خاتمًا في يدي، فابتعدن عني احترامًا لما يعدّنه إخلاصًا.
وفي آخر أيامنا قبيل السفر، وقفت إحداهن بجرأة تكاد تبلغ الوقاحة، وقالت: "طيلة هذه السنين تجاهلتني، والآن قبل سفرك، اترك لي تذكارًا… طفلاً يذكرني بك." شعرت أن الأرض تميد بي، فقلت في نفسي:" وهذا من البلاء أيضا، ثم رددت عليها بحزمٍ وأدب بقول يوسف عليه السلام: "معاذ الله" وقلت في نفسي: "إني أخاف إن عصيتُ ربي عذابَ يومٍ عظيم."
فانصرفت صامتة.
ومع ذلك، كنت أراعي عاداتهم في جميع المناسبات. وكان من عادتهم تخصيص يومٍ للمرأة في الثامن من آذار، يحتفلون به في جوٍّ أقرب إلى القداسة. فكنت أشتري زهورًا لجميع زميلاتي في الجامعة، وللمدرسات والسكرتيرات وحارسات السكن، لا أترك واحدة منهن إلا أعطيتها ثلاث قرنفلات ولوحًا من الشوكولاتة الروسية الشهية. فكنّ يقدّرن لي هذا، ويتعجبن في الوقت نفسه من تجنّبي لهن، ويحسدن زوجتي – التي لم يرينها – على وفائي وإخلاصي لها.
وهكذا كانت الغربة مدرسة؛ نجا فيها من تشبّث بحبل الله، وزلّ فيها من غفل قلبه.
في صيف العام 1985، وهو العام الدراسي ما قبل الأخير بالنسبة لي، كان علينا أن نمرّ بتدريب عملي في إحدى مؤسسات الاختصاص. وكان نصيبي أن يكون التدريب في مدينة لينينغراد، في موعد يوافق العطلة الصيفية. سألت عن الزملاء هناك، فقيل لي إنهم جميعًا قد سافروا، وكان آخرهم الأخ صلاح الذي كان يتهيأ لمغادرة السكن لقضاء عطلته في بلاده.
جلست أفكّر: شهران كاملان وحدي في سكن الطلبة، بلا رفيق ولا ناصح أمين… هذا باب للفتنة، لن أفتحه.
فاستخرت ربي، واتصلت بأهلي ورتّبت معهم أن أؤدي التدريب عندهم. ثم قدّمت للمعهد الأوراق المطلوبة وطلبًا للسفر، فوافقوا.
لماذا فعلت ذلك؟ لأني خشيت على نفسي من الضعف؛ فالشيطان إلى الواحد أقرب، فآثرت الهروب إلى الله. وأدركت أن القوة الحقيقية ليست في مقاومة الفتنة فحسب، بل في أن تتجنّب أبوابها من الأصل.
لعلك تتخيّل الآن كيف كانت الحياة نارًا تحيط بنا من كل جانب، لكننا كنا نجد في الأخوة الصادقة وذكر الله جنّةً نلوذ بها. وفي قلب موسكو تعلّمنا أن الغربة ليست وحشة المكان، بل معركة مع النفس، وأن القرب من الله يقلب المحن إلى منح.
تلك الحكايات لم تكن مجرّد ذكريات عابرة، بل كانت جزءًا من حياتنا؛ فيها صفاء الصحبة ودفء الأخوّة، وفيها مرارة الخوف وحلاوة الرجاء. لكنها علّمتنا أن نقترب من الله أكثر، وأن نحيا بالأمل في رضاه.
في يناير 1986، زرت دوشانبيه بدعوة من الصديقين محمد الوالي (من اليمن) رجمه الله، ومحمد أبصر (من بنغلادش) – وكانا قد انتقلا من جامعة الصداقة في موسكو إلى كلية الطب هناك. نظما لي برنامجًا لزيارة بعض القرى، لكنهما أخبراني عند وصولي أن الوضع غير آمن، فاكتفينا بزيارة بعض المزارعين في أطراف العاصمة.
زرنا أحدهم قبيل المغرب. سألت ابنه: "هل تقرأ القرآن؟" فأجاب بثقة: "نعم"، وقرأ بصوت عذب ولفظ سليم. سألته: "أين تعلّمت؟" فقال: "في "البودفال" (القبو) تحت الأرض." ثم أضاف: "المدرّس الروسي كان يكتب عبارات عربية على اللوح، ومن يقرأها يعده بعلامات إضافية… وهذه كانت طريقته في اكتشاف من يتعلم القرآن سرًا!" ثم تقدّم ذلك الغلام ليؤمّنا في صلاة المغرب بصوت عذب شجي وقراءة صحيحة مجودة. سلمت عليه بعد الصلاة ودعوت له..
وفي اليوم التالي، زرنا قاعة عُلّقت فيها صور ماركس ولينين. سألت باستغراب: "ما هذا المكان؟" فأجابوا: "هذا مسجد!" كانوا يجتمعون فيه للصلاة سرًا، يخفون عبادتهم وراء جلسات الشاي ولعب النرد. كان المشهد مؤثرًا: محراب متوارٍ خلف صور الطغاة، وألسنة تهمس "الله أكبر" في قلب عاصمة سوفييتية.
ولا أنسى تلك الأمسية حين أصرّ أحد الإخوة الطاجيك أن أتعشى في بيته الريفي. كانت أمه العجوز تنتظرنا، فأعدّت طبق "البلوف" الشهير بيدين مرتجفتين من كبر السن، وأكرمتنا بما يفوق الوصف. وعندما هممنا بالانصراف، أهدتني سلة مليئة بالخرمة والجوز، ثم خاطتها بقطعة قماش كي لا تنفتح في الطريق.
خرجت من دوشانبيه أحمل السلة في يدي، لكن في قلبي حملت ما هو أثمن: يقينًا بأن نور القرآن، وإن وُضع في الأقبية، لن تنطفئ شعلته.
اختتم صديقي كلامه بعينين دامعتين:
"تلك كانت قصتنا… حكاية شوقٍ لا يطويها الزمان، ولا يطفئها البعاد".
من موسكو بدأت الرحلة؛ وفي أروقتها عشنا أجمل الأيام، وتذوّقنا حلاوة الإيمان، ونسجنا خيوط صحبة صادقة. وفي إسطنبول كان لقاؤنا بعد عقود، في رحاب مسجد مهرماه، كأن الشمس التقت بالقمر بعد طول غياب.
وما زال في القلب رجاء أن يكتب الله لنا لقاءً مع باقي الأحبّة؛ إمّا في موسكو حيث وُلد الحلم، أو عند حوض المصطفى حيث تهفو الأرواح… فذلك هو الميعاد.
بقلم علي ابو عصام
------------------------------------------------------------------------------
دار الأرقم السوفييتية
من موسكو إلى القلب: رحلة في عربات المعرفة والإيمان
مشاهدات في بلاد التتار – 3 المقال الأول: الأمناء على التقاليد في قلب الصقيع – تتار سيبيريا
خواطر من ومضات الذاكرة ولي الله يعقوبوف
"ميشار" نيجني نوفغورود: مآذن من رحم المعاناة
المستشرق المسلم: والي أحمد صدور وجهاد الفكر في أرض الثلوج
حديث الذكريات عن الشيخ إلياس حاجي الأقوشي
كيف حفظ "المجلس" هوية التتار من الذوبان؟
IslamNews.Ru وكالة الأنباء
تسجيل الدخول ب:
Ответить
هذه الصفحات، على قِصرها، تختصر رحلة أعوام طويلة عاشها الكاتب بين قسوة الغربة وبرودة الشيوعية من جهة، وبين دفء الإيمان وأخوّة الصحبة الصادقة من جهة أخرى. وقد جاءت المذكرات عابقة بروح الدعوة، وبحرارة الإيمان، وبرد اليقين الذي يظلل القلب عند الشدائد. 1. معاني الأخوّة في زمن الفتن المذكّرات تكشف بوضوح كيف أن الصحبة الصالحة كانت حصنًا منيعًا في وجه الفتن. فاجتماع الطلاب ليلة رأس السنة في الصلاة والذكر والمسابقات الإيمانية كان بديلًا عن الانغماس في لهو المدينة ومعاصيها. وقد جسّدوا بذلك الحديث الشريف: “الذئب يأكل من الغنم القاصية”، فلم يتركوا أحدًا وحيدًا أمام المغريات. هذه الأخوة لم تكن شعارًا، ...
Читать дальше
Ответить
ثبتنا الله وإياكم حتى نلقاه وهو رض عنا تاريخ طويل وذكريات مهمة جدا الحمد الله أنكم سعيتم فى تسجيلها لكى تتعلم منها الأجيال القادمة بإذن الله وتكون شاهدة أيضا أن الحركة الإسلامية والدعوة إلى الله تعالى ستظل باقية ما بقيت هذه الدنيا كما قال صلى الله عليه والسلم الخير فى وفى أمتى إلى يوم الدين رغم كل هذا التضيق والإضطهاد إلا أن دعوة الله تنتشر فى كل مكان بفضل الله ورحمته بخلقه جزاكم الله خيرا قال الله تعالى {{ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم }} الصدقة لك وإن بدا أنها للفقير، والكلمة الطيبة لك وإن أسعدت غيرك.، وجبر الخواطر لك وإن كان أثره على الناس. أنت لا تغرف و تملأ دلو الآخرين في الحقيقة أ...
Читать дальше