لتعارفوا دهشات الغربة… بين كلمة وسلام

العلامات:

1
06-09-2025

لكل شعبٍ عاداتٌ لا تُدرك إلا بالمعايشة والاحتكاك المباشر، فإذا عرفها الغريب أحبَّ القوم وألفهم، وصدق فيهم قول الله تعالى:

﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾.

ومن إقامتي في روسيا زمن الدراسة، مرّت بي مواقف صغيرة في ظاهرها، عميقة الدلالة في باطنها؛ كفيلة بأن تلطّف وطأة الغربة، وتحوّل الاستغراب الأول إلى ألفة وابتسامة.

وقديماً، كان سلفنا يحثّون على الارتحال طلبًا لتوسعة المدارك، كما قال الشافعي:

ما في المقام لذي عقلٍ وذي أدبٍ

من راحةٍ، فدعِ الأوطان واغتربِ

وفي موسكو، انفتحت أمامي أبواب لعالم جديد؛ كلمة غريبة في قاعة الامتحان، أو عادة بسيطة في إلقاء السلام، أو طقس شعبي في السفر والولادة… تفاصيل بدت في ظاهرها هينة، لكنها صارت لي مفاتيح لفهم ثقافة القوم الذين أعيش بينهم.

١. لا فرو ولا ريش

في سنتي الجامعية الأولى، كنتُ ما أزال غريبًا على تقاليد الجامعة، أراقب كل حركة وكلمة محاولًا التعلّم والتأقلم. وقبيل أول امتحان لي، تقدمت نحوي إحدى الزميلات، همست لي بابتسامة بكلمة قصيرة:

— «Ни пуха!»

(ني پوخو)

ارتبكت ولم أفهم شيئًا. كنت بطبعي أتحاشى الحديث مع الزميلات، وهذه بالذات كانت ابنة دبلوماسي كبير، ينظر إليها زملائي الروس على أنها “بورجوازية” لأنها ترتدي ثيابًا أنيقة متنوعة كل يوم، في وقتٍ كان ذلك فيه أمرًا نادرًا. ورغم ذلك، كانوا يتنافسون على كسب ودّها.

وها هي تعترض طريقي قبل الامتحان، وتلقي عليّ عبارة غامضة تنتظر ردًّا لا أعرفه. طال صمتي، فإذا بها تقول بحدة:

— «لمَ لا ترد؟!»

تلعثمت وقلت مرتبكًا: “وماذا أقول؟”

فأجابت وهي تعقد حاجبيها:

— «К чёрту!»

(ك تشورتو) أي للشيطان!

ثم مضت في طريقها.

يا لطيف! ارتجفت في داخلي؛ ظننتها قد شتمتني! كدت أنفجر غضبًا، لكن الموقف لم يحتمل، فقد كان عليّ دخول الامتحان. دخلت وأنا أهمس: يا فتاح يا عليمالله يستر من وجه النحس هذه!

لكن الأمور سارت على خير ما يرام، وخرجت بعلامة كاملة: خمسة في عين الحسود. كانت هي أعلى درجة، وتُسمّى أوتليشنو (ممتاز). أما الرسوب، فكان “دفويكا” (2)، يكتبونها “ني أود” أي “غير موفق”.

خرجتُ فرحًا بالبياتيوركا (5)، لكن بقي السؤال يطاردني: ما معنى ما قالت؟

بعد الامتحان، التقيت زميلي “غيرمان” من بيلاروسيا، وكان من أقرب أصدقائي، فقصصت عليه ما جرى وقلت له:

— “هذه البورجوازية شتمتني بلا سبب! قالت: «ني پوخو» ثم «كتشورتو»!”

ضحك غيرمان، حتى لفت أنظار الطلبة من حوله، وقال:

— “لا يا صاحبي، هذه عادة عندنا. العبارة الكاملة: «Ни пуха, ни пера!» أي: لا فرو ولاريش. والردّ الصحيح هو: «К чёрту!» أي للشيطان.”

تضاعفت دهشتي: وما علاقة الفرو والريش بالتوفيق في الامتحان؟ ولماذا يُدخل الشيطان في التمنّي؟

ضحك مجددًا وقال:

— “نحن نؤمن أن تمني التوفيق مباشرة يجلب النحس، فنقول العكس كنوع من خداع النحس لجلب الحظ. أصلها من تراث الصيادين، إذ كانوا يتبادلونها قبل الصيد.”

شاركنا الحديث “أندرية” مسؤول الكومسمول، بسترته الجلدية السوداء المعهودة، وكان يُلقَّب بيننا بالفيلسوف. قال وهو يبتسم ابتسامة الواثق:

— “صحيح. أصلها من الصيادين، يتمنون لبعضهم الحظ في صيد الفراء والطيور.”

التفتُّ إلى غيرمان مبتسمًا وقلت:

— “يعني في النهاية لم تشتمْني.”

وضحكنا طويلًا. عندها عقّب أندرية بجدية:

— “في روسيا، لا يمكن أن تفهم الأمور بالعقل وحده… لا بد أن تُشرك القلب أيضًا.”

منذ ذلك اليوم، كلما سمعت “ني پوخو”، عرفت أنها دعاء بالخير يتخفّى في ثوبٍ غريب.

٢. عادة التحية… بين صباح ومساء

من بين زملائي الروس، كان “فاليرا” مختلفًا؛ جاء من مدينة “ساليخارد” في أقصى الشمال، حيث البرد القارس. كان ودودًا طيبًا مثل غيرمان، بخلاف كثير من الزملاء الذين أثقلت الخدمة العسكرية طباعهم بالصرامة.

في صباح يومٍ بارد، التقيت فاليرا عند مدخل الكلية، صافحته بحرارة وحيّيته. ثم مضى كلٌّ منا إلى برنامجه الدراسي.

ومع غروب اليوم، وبينما أغادر الكلية، التقيته ثانية. اقتربت منه بعفويتي الشرقية، مددت يدي لأصافحه مجددا. فإذا به ينظر إليّ باستغراب ويقول:

— “ما بك؟ لقد سلّمنا على بعضنا اليوم!”

توقفت مذهولًا وسألته:

— “كيف؟ متى؟”

قال ببساطة:

— “صباحًا… عند المدخل.”

عندها أدركت أن في عرفهم يكفي سلامٌ واحد في اليوم، كأنه جرعة دواء لا تُعاد. أما عندنا، فالسلام يتجدد مع كل لقاء، ولو تكرّر عشرات المرات.

ابتسمت وأنا أغادر، أفكر في تلك التفاصيل الصغيرة التي تمرّ عندنا عابرة، فإذا بها تتحوّل إلى مفاجأة تكشف اختلاف العادات بين الشعوب.

٣. الطرق على الخشب

لفتتني عادة أخرى لدى زملائي الروس. الذين كانوا يزعمون أنهم ملحدون، ولا يؤمنون بدين ولا غيب. ومع ذلك، كنت ألحظ في مواقف كثيرة أن في أعماقهم إيمانًا خفيًّا وإن بقوى غامضة قادرة على جلب السعد أو دفع النحس.

ذات يوم، كنت أتحدث مع صديقي “غيرمان” عن نجاحنا في مشروع جامعي مشترك، فإذا به يبتسم ويقول لي:

— “اطرق على الخشب، يا رجل، حتى لا تصيبنا بالعين.”

قالها هكذا: чтоб не сглазить (حرفيًا: كي لا نصاب بالعين).

ضحكت وقلت مازحًا:

— “أي عين وأي خشب؟! هذه ترّهات رجعية، دعك منها!”

فابتسم بثقة وقال:

— “لا، أنت لا تعرف. العين حق، وطرق الخشب ينجّينا من الحسد 🧿.”

تأملت قوله، وأدركت أن الإيمان بالغيب أصل راسخ في فطرة الإنسان، مهما حاول طمسه أو إنكاره. فقلت له:

— “صدقت. أنا أؤمن بذلك أيضًا، لكن عندنا نلجأ إلى ما هو أسمى: نتلو آيات من القرآن الكريم وأدعية تحفظ من شرّ الحاسد إذا حسد.”

ابتسم غيرمان وهزّ رأسه موافقًا، وكأننا اكتشفنا أننا، على اختلاف ثقافاتنا، يوجد بيننا عامل مشترك يتمثل في الإحساس بخطر قوى خفية غير مرئية، تُسمّى الحسد والعين.

٤. الميلاد… لا تهنئة قبل أوانها

من العادات الجميلة لدى زملائي الروس أنهم كانوا يحتفظون بدفتر صغير تُكتب فيه تواريخ ميلاد أفراد الفريق. وفي يوم ميلاد أحدهم، يقدّمون له التهاني جميعًا ويجتمعون على هدية رمزية مشتركة تعبّر عن المودة.

أعجبتني هذه الروح الجماعية، وحاولت أن أقلّدهم. كان ميلاد صديقي غيرمان في شهر مايو، وكنت أعلم أنه يسافر في عطلة الربيع إلى أهله في بيلاروسيا. أردت أن أسبقه بالتهنئة قبل سفره، ففوجئت به ينظر إليّ غاضبًا ويقول:

— “ألا تعرف أن التهنئة قبل يوم الميلاد تُغضب الأقدار وتجلب سوء الحظ؟!”

ابتسمت وقلت له مازحًا:

— “للأسف لم أكن أعرف… إذن أسحب تهنئتي، وأتركها ليومها، وأسأل الأقدار أن تجلب لك كل خير!” 🤣

كنت أظنها مجرد طرافة، لكني اكتشفت أن كثيرين من الروس يأخذونها على محمل الجد. وهكذا يتأرجح الأمر بين الجد والفكاهة، لكنه يظل جزءًا من نسيج ثقافتهم.

٥. جلوس قبل السفر

وقبل أن يسافر غيرمان يومًا ما، جاء لزيارتي في الغرفة. وعند الباب، توقّف فجأة وقال:

— «Посидим на дорожку»

(لنجلس قبل الطريق).

جلسنا بصمت بضع لحظات، ثم أوضح:

— “هذه عادتنا. قبل السفر يجلس أفراد العائلة أو الأصدقاء صامتين للحظات، اعتقادًا بأن ذلك يضمن عودة آمنة ويُيسّر الطريق.”

دهشت لهذا الطقس الغريب، فسألت “أندرية الفيلسوف” عن أصله، فأجاب:

— “يرجع إلى أيام الوثنية؛ إذ كان يُظن أن الأرواح الشريرة قد تتعقّب المسافر، والجلوس المفاجئ يربكها. واليوم لم يعد أحد يؤمن بذلك حرفيًا، لكنه طقس باقٍ، أشبه بتذكير المرء بما نسيه قبل أن يغادر.”

أدركت عندها أن للرحيل رهبة لا تُكسر إلا بوقفة صامتة، قصيرة لكنها عميقة.

٦. لا سلام عبر العتبة

وفي موقف آخر، نبهني زميل أذري إلى عادة متجذّرة بين الطلبة من مختلف القوميات، ثم وجدت أنها متعارف عليها أيضًا بين الروس: عدم المصافحة أو تمرير الأشياء عبر عتبة الباب.

كنت قد وقفت عند باب غرفتي، فناولت زميلي شيئًا عبر العتبة، فإذا به يرفض أخذه قائلاً:

— «Не здороваться через порог»

(لا نُسلّم عبر العتبة).

سألته بدهشة: “ولماذا؟”

قال: “لأن العتبة حدّ يفصل بيننا، وإذا صافحنا عبرها دلّ على أننا سنتخاصم. الأفضل أن تخرج أنت إليّ أو أدخل أنا إليك، أما المصافحة عبر الباب فمجلِبة للمشاكل.”

ابتسمت وأنا أستمع إليه. تفاصيل صغيرة كهذه كانت تكشف لي في كل مرة أن وراء العادات اليومية، مهما بدت بسيطة، طبقات من التاريخ والأساطير والرموز.

خاتمة

الشعب الروسي كما عايشته في أيام الاتحاد السوفييتي، شعب طيب بسيط، متواضع في معيشته، صادق في مودته. ولديه عادات وتقاليد ذات نَفَس شرقي، تشبه في كثير من جوانبها عاداتنا الشعبية وتقاليدنا الأصيلة.

وهكذا، وسط الغربة البعيدة، كنتُ أجد في تلك الملامح ما يقرّب القلوب ويُذيب الفوارق. وصدق المولى الكريم إذ قال:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾.

بقلم علي ابو عصام
------------------------------------------------------------------------------

دار الأرقم السوفييتية

من موسكو إلى القلب: رحلة في عربات المعرفة والإيمان

على جمر الغربة… وفي ظلّ الإيمان

مشاهدات في بلاد التتار – 3 المقال الأول: الأمناء على التقاليد في قلب الصقيع – تتار سيبيريا

خواطر من ومضات الذاكرة ولي الله يعقوبوف

"ميشار" نيجني نوفغورود: مآذن من رحم المعاناة

المستشرق المسلم: والي أحمد صدور وجهاد الفكر في أرض الثلوج

حديث الذكريات عن الشيخ إلياس حاجي الأقوشي

كيف حفظ "المجلس" هوية التتار من الذوبان؟

تعليقات() النسخة المطبوعة

اضف تعليق

قاسم النجداوي 07-09-2025
Ответить

المقالة التي كتبتها علي أبو عصام تقدم لمحة رائعة عن بعض العادات والتقاليد الروسية التي صادفها خلال إقامته في روسيا، مع التركيز على التفاصيل الصغيرة التي تعكس ثقافة الشعب الروسي. ومع ذلك، هناك العديد من العادات الروسية الأخرى التي لم يتطرق إليها الكاتب، والتي تُعد جزءًا من النسيج الثقافي الغني لروسيا. لعله يكرمنا بمقالة عن بعض هذه العادات مع شرح موجز، معتمدًا على معرفته بالثقافة الروسية