فسيفساء العادات الروسية: ما بين الموروث والوجدان

العلامات:

1
09-09-2025

بعد المقال الأخير، تلقيت رسالة من أحد الأصدقاء يقول فيها: “لقد نسيتَ الكثير من العادات الروسية!”. وحقّ له أن يقول ذلك. فمقالي السابق لم يكن تقريرًا جامعًا عن كل ما في روسيا من عادات وتقاليد، بل كان فقط انعكاسًا لمعتقداتٍ عشتها، ومشاهداتٍ التقطتها بنفسي من زاويتي كطالب أجنبي بين جدران الجامعة وأروقتها، وفي دوامة حياة الطلبة اليومية.

غير أن روسيا — ذلك البلد العملاق — أكبر من أن تُختزل في مقال، وأغنى من أن يُحاط بها في تجربة فرد. إنها بحرٌ واسع الأطراف، متعدد الأعماق، تشكّل عبر القرون من تمازج فريد لشعوبٍ لا تُعدّ ولا تُحصى، ومناطق تمتد بين أوروبا وآسيا، حاملةً معها موروثًا من العادات يصعب تتبّعه كله. فهي لوحة فسيفساء ملوّنة، كلّ حجر فيها يحكي قصة، وكل لون يعكس تقليدًا أو معتقدًا شعبيًا نما في رحم الثلج والغابات والسهول الشاسعة.

ولعلّ هذه المساحة الشاسعة — جغرافيًا وثقافيًا — هي ما يجعل من روسيا لغزًا مثيرًا، يستحق أن نستكشفه طبقة بعد طبقة، دون ادعاء الإحاطة، ولكن بشغف المتعلم الذي يدرك أن ما يعرفه هو مجرد غيض من فيض.

البيت والضيافة

إذا خرجنا من أسوار الجامعة واتجهنا نحو العمق الروسي، فإننا سنصادف عاداتٍ تتعلق بالكرم الذي يفوق التوقعات. فاستضافة الضيف في البيت الروسي طقسٌ مقدس يشبه عادات الضيافة العربية لكن بنكهة شمالية. لا يُسأل الضيف إن كان جائعًا أو عطشانًا، بل يُقدَّم له الطعام والشراب فورًا وكأن الأمر مفروغ منه.

ومن أبرز الرموز: تقديم الخبز والملح. رفض هذا الكرم يُعدّ إهانة غير مقصودة. ويقول الروس كما المصريون: “كي يكون بيننا عيش وملح” كتعبير عن الترابط العميق.

أصبحت هذه العادة جزءًا من الاستقبالات الرسمية أيضًا: حيث يُستقبل ضيوف الدولة برغيف خبز أسود ووعاء ملح صغير، رمزًا للوفرة والحماية. وهو تقليد سلافي قديم ما زال حاضرًا في حفلات الزفاف والمناسبات الشعبية.

ولدى الروس عبارات ترحيب صادقة مثل: “اعتبر نفسك في بيتك”. واذكر أنني كنتُ مرة في جنوب روسيا، في منطقة ستافروبول، حيث التقيت بصديق روسي قديم. دعانا إلى بيته مرحّبًا وقال: «أنتم لستم ضيوفًا، بل اعتبروا أنفسكم في بيتكم». كانت العبارة مشبعة بالصدق، وأثارت في نفسي مشاعر حنين للوطن، إذ كثيرًا ما تتردد مثل هذه الكلمات في مجالسنا العربية.

البيوت… طقوس يومية صامتة

من الشائع جدًا في روسيا خلع الأحذية عند دخول المنزل وارتداء النعال المنزلية (тапочки – تابوتشكي). وأحيانًا يقدم المضيف نعالًا خاصة للضيف، في دلالة على النظافة والراحة، خصوصًا في ظل الثلوج والأوحال.

الصفير يجلب الفقر

ومن المعتقدات الشعبية تجنّب الصفير داخل المنزل، لأنه — بحسب اعتقادهم — يطرد الثروة ويجلب الفقر. وهي عادة تذكّر بعادات عربية مشابهة تحذّر من الصفير داخل البيت كونه يستدعي الشيطان.

غسل المنزل الجديد

من عاداتهم عند الانتقال إلى منزل جديد، أنهم أحيانًا يدخلون قطة إلى المنزل أولًا، لأنها تُعتبر رمزًا للحظ والحماية. كما يصاحب ذلك عادة تسمى “غسل المنزل الجديد” (обмывание дома)، حيث يدعو السكان الجدد الأصدقاء لتناول الطعام والشراب لجلب البركة للمكان. هذه العادة تعكس الرغبة في بداية جديدة محمية من الأرواح الشريرة.

الداتشا والبانيا: حب الأرض والتطهر

مع قدوم الصيف، تتحول حياة الكثير من العائلات إلى ما يُسمى بـ الداتشا: قطعة أرض صغيرة خارج المدينة، يزرعون فيها خضرواتهم ويستمتعون بالطبيعة. ليست الداتشا مجرد استراحة، بل أسلوب حياة يعكس حب الأرض وروح الجماعة؛ نافذة صيفية يفتحها الروس على أرواحهم.

ولا يمكن الحديث عن الداتشا دون ذكر البانيا (الحمّام البخاري الروسي). إنه أكثر من مكان للاستحمام؛ إنه بمثابة معبد للتطهر الجسدي والروحي. يجتمع فيه الأصدقاء، ويتبادلون ضربات خفيفة بأغصان البتولا وسط البخار المتصاعد. مشهد قد يبدو غريبًا للبعض، لكنه رمز للرعاية بالصحة والجسد.

وهذه العادة منتشرة بكثرة لدى التتار في روسيا كذلك، ويسمونها مونتشا. بل إنها قد تعتبر مناسبة يدعو بعضهم بعضًا إليها.

ولم أنسَ أول تجربة لي في البانيا، حين دخلتها في شتاء قارس. لفحني بخارها لاذعًا خانقًا، يغمر الصدر ويكاد يحبس الأنفاس. ثم جاءت أغصان البتولا، تلسع جلدي كإبر دقيقة تخترقه حتى احمرّ، كأنها توقظ الجسد من سباته الطويل. لم أدرِ كيف تحوّل ذلك الألم إلى نشوة، حتى خرجت وألقيت نفسي على الثلج الأبيض الناصع. عندها اجتاحني شعور غامر بالانتعاش، كأن البخار والنار والثلج اتفقت جميعًا على منحي راحة وسعادة لا توصف.

ثم يتلو ذلك شاي ساخن، يزيد التجربة دفئًا ومتعة.

معتقدات غارقة في القدم

ورث الروس، خاصة في القرى، موروثًا هائلًا من المعتقدات الشعبية، تتراوح بين الطرافة والغموض. بعضها لمسته بنفسي، فمثلًا: الجلوس على الطاولة قبل السفر يُعدّ نذير شؤم. والاصطدام بشخص يحمل دلوًا فارغًا في الطريق يُعتبر فألًا سيئًا، بينما رؤية شخص يحمل دلوًا مليئًا تعني أن يومك سيكون موفقًا!

ومن العادات المنتشرة في مختلف الأوساط الشعبية بين الروس والتتار على حد سواء: تجنب وضع الحقائب (خاصة تلك التي تحتوي على المال أو الأغراض الثمينة) على الأرض، حيث يعتقدون أن ذلك يجلب سوء الحظ ويهدد الرفاهية المالية. بدلًا من ذلك، يحرصون دائمًا على وضعها على كرسي أو طاولة. لاحظت هذا السلوك في منازل الأصدقاء وحتى في المقاهي، حيث تترك حقيبة الظهر على كرسي مجاور وليس على الأرض، وكأن الأرضية منطقة محظورة على الرخاء!

نحن كمسلمين نعد ذلك تطيرًا، والإسلام يرفضه لقول النبي ﷺ: “لا طيرة ولا تطير”. وقد لاحظت أن الكنيسة الأرثوذكسية كذلك تحارب بعض هذه المعتقدات، رغم أنها تبقى جزءًا من شخصية الشعب.

إبرة الحظ: بين الفأل والخيبة

من العادات اللافتة تجنّب خياطة زر منقطع من الثوب أثناء ارتدائه. يعتقد الروس أن هذا الفعل قد “يخيط” حظ الشخص أو يغلقه عليه، مما يجلب له سوء الحظ. وإن اضطروا لذلك، فإنهم يطلبون من الشخص أن يمسك الخيط بأسنانه أثناء الخياطة، كطريقة لتجنب الضرر و”خداع” سوء الحظ.

لهذه العادة أصول تاريخية عملية: في العصور القديمة، كانت الإبر خشنة وغير معقمة، وقد تسبب الوخز بها التهابات خطيرة أو جروحًا مميتة. لذلك لم يكن إصلاح الملابس أثناء ارتدائها آمنًا.

وهناك عادة أخرى مرتبطة بالخياطة لكنها فأل حسن هذه المرة. ففي المعتقدات الشعبية يوجد تعبير “خياطة رجل”، أي أن استخدام طريقة الخياطة هذه قد يجلب خطيبًا إلى حياة الفتاة.

العطسة شاهدة على الحقيقة

عند العطاس أثناء حديث مهم أو أثناء التخطيط لرحلة، يقولون: “إلى الحقيقة!” (К истине!) كتعبير عن صحة ما كان يقوله المتحدث، أو تمني التحقيق والنجاح. وهذا يشبه نوعًا ما تشميت العاطس في بلادنا بقول “يرحمك الله”، لكنه يأخذ دلالة مختلفة في السياق الروسي. وقد كان الدكتور شاميل سلطانوف رحمه الله يردد ذلك إن صادف أن عطس أحدنا أثناء الحديث.

الهدايا والزهور

إذا دُعيت إلى منزل روسي، يُتوقع في العادة إحضار هدية بسيطة مثل شوكولاتة أو زهور (للنساء في البيت). لكن يجب تقديم عدد فردي من الزهور؛ ففي روسيا، الأعداد الزوجية ترتبط بالجنازات والموت. وهذه عادة مهمة جدًا، وكان أصدقاؤنا في الجامعة ينبهوننا دائمًا إلى ذلك.

تجنَّب الزهور الصفراء لأنها ترمز إلى الانفصال أو الخيانة. كما يُعتبر من السيئ تقديم هدية للطفل قبل ولادته.

أسلوب التحية والتواصل الاجتماعي

التحية عند الروس غالبًا بمصافحة قوية مع النظر المباشر في العين، وتكون ألطف قليلًا مع النساء. بين الصديقات النساء تنتشر القبلات على الخدود، أما الأصدقاء فيضيفون تربيتة خفيفة على الكتف. لم تكن عادة تقبيل الرجل للنساء منتشرة من قبل، لكنها بدأت تظهر مع الانفتاح على الثقافة الغربية.

أما القوقازيون فلديهم عادة جميلة فيها معاني الرجولة والقوة، وهي العناق بعد المصافحة من ناحية الكتف لمرة واحدة، وتختلف عن عادات العناق الثلاثي في الخليج.

تشابهات مع الشرق

روسيا بلد متعدد القوميات: تتار، باشكير، قوقازيون وغيرهم. ولكل منهم عادات خاصة. ومع ذلك، يلتقي كثير منها مع التقاليد الشرقية: مثل الإيمان بالعين أو طقوس جلب الحظ. هذه التشابهات جعلت بعض العادات مألوفة بالنسبة لي.

العادات المرتبطة بالخمر

ولا تخلو كثير من العادات الروسية من ارتباط بالخمر، الذي يحتل مكانة بارزة في مناسباتهم الاجتماعية. غير أنني كمسلم كنت أتجنب تلك المجالس، وكان بعض أصدقائي الروس يتفهمون ذلك، فيما كان آخرون يضيقون به.

كنت أردد لهم أن الخمر مجلبة للفقر ومحق للبركة، وكنت أرى في التجربة السوفييتية ما يعزز قولي. ففي بدايات حياتنا الجامعية، أطلقت الدولة السوفييتية حملة واسعة للحد من استهلاك الكحول في الأماكن العامة، حفاظًا على الصحة وزيادة الإنتاجية. وقد بدا لي ذلك شاهدًا عمليًا على أن الخمر لا يجلب إلا الضرر للفرد والمجتمع.

الفسيفساء المستمرة

ما ذكرتُه هنا مجرد لمحات. ففي الشمال عادات تختلف عن الجنوب، وفي سيبيريا تقاليد تعكس طبيعتها الخاصة وقبائلها الأصلية. روسيا عالم مصغر بتنوعه، فسيفساء متصلة الألوان.

لكن الخيط الذي يربط هذه اللوحة هو القلب الدافئ خلف البرودة الظاهرية، والروح الجماعية التي تتجلّى في اللحظات الصعبة. ولعل هذا هو الدرس الأعمق الذي تعلمته: أن المعنى الحقيقي لأي شعب لا يُقرأ في الكتب، بل يُعاش في تفاصيل الحياة اليومية، بين الناس.

وهكذا تتجلى الحكمة التي وجّهنا إليها سبحانه حين قال: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾.

بقلم علي ابو عصام
------------------------------------------------------------------------------

لتعارفوا دهشات الغربة… بين كلمة وسلام

دار الأرقم السوفييتية

من موسكو إلى القلب: رحلة في عربات المعرفة والإيمان

مشاهدات في بلاد التتار – 3 المقال الأول: الأمناء على التقاليد في قلب الصقيع – تتار سيبيريا

خواطر من ومضات الذاكرة ولي الله يعقوبوف

"ميشار" نيجني نوفغورود: مآذن من رحم المعاناة

المستشرق المسلم: والي أحمد صدور وجهاد الفكر في أرض الثلوج

حديث الذكريات عن الشيخ إلياس حاجي الأقوشي

كيف حفظ "المجلس" هوية التتار من الذوبان؟

تعليقات() النسخة المطبوعة

اضف تعليق

قاسم 12-09-2025
Ответить

‎المقال بعنوان “فسيفساء العادات الروسية: ما بين الموروث والوجدان” بقلم علي أبو عصام، المنشور على موقع islamnews.ru، يقدم رحلة وصفية غنية وممتعة في نسيج العادات والتقاليد الروسية من منظور طالب أجنبي عاش تجربة مباشرة في روسي * العمق الثقافي: المقال يتميز بقدرته على تقديم صورة بانورامية للعادات الروسية، مع التركيز على تفاصيل دقيقة مثل طقوس الضيافة (تقديم الخبز والملح)، عادات البيوت (خلع الأحذية، تجنب الصفير)، ومعتقدات شعبية (مثل إدخال القطة إلى المنزل الجديد أو تجنب خياطة الزر أثناء ارتداء الثوب). هذه التفاصيل تضفي طابعًا حيويًا وشخصيًا يجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش التجربة. * التنوع الثقافي: ا...
Читать дальше